Encyclopedia of Muhammad

ضيافة العرب وسخاؤهم

Published on: 05-Apr-2025

كانت معظم جزيرة العرب متألفة من الصحاري الواسعة والبراري الشاسعة، لا تسقط بها الأمطار إلا قليلًا، وتعزّ فيها وسائل الاقتصاد. وكان وضعها الاقتصادي سيئا جدا في قديم الزمان، رغم ذلك رزقهم اللّٰه تعالى صفة السخاء والجود، صفة الضيافة والكرم، فكانوا أجود الناس وأكرمهم، وكانت لهم في الكرم ضروب شتى، فمن عاداتهم أن يشعلوا النيران في ربوات عالية؛ ليهتدي بها السائرون في الصحراء، ويتجهوا إلى المضارب المستعدة لاستضافتهم. 1 والكرم خلق متأصل في العرب، ولا سيما أهل البادية، وقد كان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ذبحها أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان، بل كان يطعم الوحش والطير، وهذا حاتم الطائي سارت بكرمه الركبان، وضربت به الأمثال. 2

أما الضيافة فكانت عند العرب أمرا عظيما لا يفوقها أي أمر آخر، وإكرام الضيف هي الصفة الملازمة للعرب، وهي إحدى أركان عاداتهم وتقاليدهم التي توارثوها. فللضيف مكانة عظيمة في نفس البدو لا يتوانون في تقديم له حقه من الضيافة، وذلك متى ما دخل في مضربهم وحل في حماهم. ولا شك أن إكرام الضيف طبع أصيل تميز به العرب عن غيرهم من باقي الأمم. ويقدم للضيف حق الضيافة حتى لو كان عدوا ما دام أنه نزل أو دخل بيت مضيفه؛ لأن من دخل البيت فقد أمن على نفسه وخاصة إذا تناول طعاما أو شرابا فيصبح في مأمن ولو كان في وكره عدوه. وكان العرب يفتخرون بذلك. يقول عروة بن ورد:

سلي الطارق المعتر يا أم مالك
إذا ما أتاني بين قدري ومجزري
أيسفر وجهي أنه أول القرى
وأبذل معروفي له دون منكري 3

ويقول عتبة بن بجير الحارثي -شاعر من بني الحارث بن كعب- مادحًا لكرمه:

ومستنبح بات الصدى يستتيهه
إلى كل صوت فهو في الرحل جانح
فقلت لأهلي ما بغام مطية
وسار أضافته الكلاب النوابح
فقالوا غريب طارق طرحت به
متون الفيافي والخطوب الطوارح
فقمت ولم أجثم مكاني ولم تقم
من النفس علات البخيل الفواضح
وناديت شبلًا فاستجاب وربما
ضمنا قرى عشر لمن لا نصافح 4

فكان الشعراء الجاهليون يصفون الكرم في أشعارهم، وينشدون فيه قصائدهم فخرًا به، مما يؤدي إلى أن العرب كانوا يعتنون بالكرم والضيافة اعتناء بالغا، وكان الكرم في المجتمع العربي الجاهلي مفخرة جليلة ومنقبة عظيمة.

الضيافة

إن إكرام الضيف من مكارم الأخلاق، وجميل الخصال التي تحلى بها العرب، ومن كان معروفا في الجاهلية بالضيافة كان معروفا بشرف المنزلة وعلو المكانة بين الناس، ينقادون له ويسودونه عليهم، ولا يسودون إلا رجلا عرف بإطعام الطعام وإكرام الضيف. وللعرب في ذلك معالم وإشارات وطرق يوجهون بها الضيوف والمسافرين إلى الإطعام والإكرام، فكانوا يوقدون النيران على تلال عالية في الليالي المكفهرة؛ فيراها المسافر فيهتدي بها إلى مأوى أو يطرق عليهم، وكانوا يقتنون الكلاب عند القطعان والأنعام؛ لتنبح في ليالي البرد القارس، فيسمح صوتها أجنبي غريب ويذهب إلى أهليها فيطعمونه ويضيفونه، وتفصيل ذلك فيما يلي.

إيقاد النيران

كان العرب يوقدون النيران على مكان مرتفع يهتدي بها المسافر الغريب في الظلام فيكرمونه ويطعمونه. هذا حاتم الطائي الجواد، كان إذا جن الليل يوعز إلى غلامه أن يوقد النار في يفاع من الأرض؛ لينظر إليها من ضل الطريق فيأوي إلى منزله ويقول:

أوقد فإن الليل ليل قر
والريح يا موقد ريح صر
عسى يرى نارك من يمر
إن جلبت ضيفًا فأنت حر5

وقال السموأل بن عاديا:

وما ‌أخمدت ‌نار ‌لنا دون طارق
ولا ذمنا في النازلين نزيل

كان السموأل شاعرا كريما شجاعا، أحد الأوفياء المعروفين بالوفاء. 6

اقتناء الكلب

كان العرب يقتنون الكلاب في الطقس القارس البرودة إذ لا تشتعل النار، فتحرس الأنعام والدواب، وتنبح بعالي الصوت، يصل نباحها إلى الأمكنة النائية ليسمعه مسافر أجنبي إن ضل الطريق فيطرق عليهم، أو يهتدي السبيل إلى منازلهم فيكرمونه، قال قائل في كلب له:

أوصيك خيرا به فإن له
خلائقا لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في عسق اليل
إذا النار نام موقدها 7

ورئي حاتم يوما يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدل عليه أضيافه وهو يقول هذه الأبيات السابقة. 8 وكانوا يسمون الكلاب داعي الضمير، وهادي الضمير، وداعي الكرم، ومتمم النعم، ومشيد الذكر؛ لما يجلب من الأضياف بنباحه، والضمير الضيف الغريب -من أضمرته البلاد إذا غيبته-، وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح ولم تثبت النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي، وجعلوا لها مظال، وربطوها إلى العمد لتستوحش فتنبح فتهدي الضلال. 9

كل هذه الألقاب التي يسمى بها الكلب تدل على أنهم كانوا يقتنونه؛ ليستدل بنباحه الغرباء والفقراء والأضياف، وأنواع الضيافة هذه من أفضل خصال العرب، فيجلبون الأضياف ثم يكرمونهم باسطي اليدين، وليس ذلك إلا نوعا يسيرا من ضيافتهم، أما سخاؤهم فيستبعد أن يكون له نظير في المجتمعات الأخرى غير المجتمع العربي.

السخاء

يعد السخاء من أبرز الصفات والسمات التي كانت شائعة سائرة في المجتمع العربي، يقول مرة بن محكان التيمي:

أقول والضيف مخشي ذمامته
على الكريم وحق الضيف قد وجبا
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
ضمي إليك رحال القوم والقربا
في ليلة من جمادي ذات أندية
لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة
حتى يلف على خيشومه الذنبا
ماذا ترين أندنيهم لأرحلنا
في جانب البيت أم نبني لهم قببا
لمرمل الزاد معنى بجاجته
من كان يكره ذمًا أو يقي حسبا
وقلت لما غدوا أوصي قعيدتنا
غدي بنيك فلن تلقيهم حقبا 10

لا يحتاج سخاءهم ولا جودهم إلى دليل ولا شاهد، بل يشهد بذلك أعداؤهم، والفضل ما شهدت به الأعداء، فإن نزل بهم ضيف أو جلبوه فينزلونه منزلة الملك، يعظمونه ويكرمونه بالأثمن الغالي. وكان من عاداتهم أن يتذكروا أبرز الرجال الذين اشتهروا بينهم بالجود والكرم، ثم ينقل ذكرهم الخير إلى الآخرين جيلا بعد جيل؛ لتترسخ مآثرهم ومحاسنهم في القلوب والنفوس. يقول أبو عبيدة: أجود العرب ثلاث: كعب بن مامة، وحاتم الطائي، وكلاهما ضرب به المثل، وهرم بن سنان، صاحب زهير الشاعر. 11

أجواد العرب وأسخياؤهم

شهدت أرض العرب رجالًا رسموا أسماءهم في قائمة الأجواد الكرماء، الذين أبقى لهم التاريخ ثناء جميلا في أوراقه، والذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية، وهم حاتم بن عبد اللّٰه بن سعد الطائي، وهرم بن سنان المري، وكعب بن مامة الأيادي، وضرب المثل بحاتم وكعب، وحاتم أشهرهما. 12 نذكر هنا بعض أحوالهم.

حاتم الطائي

حاتم الطائي، هو ابن عبد اللّٰه بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي الجواد المشهور، شاعر جاهلي، يكنى أبا سفانة بابنته، وابنه عدي بن حاتم الصحابي المشهور. 13 ذكر الحميري: هو حاتم بن عبد اللّٰه بن سعيد الحشرج الطائي، الجواد، أكرم الناس جميعًا، وأسخاؤهم، لماضيهم وغابرهم، وكرمه مشهور، يمثل به العالم والجاهل، يزداد جدة على مر الليالي والأيام. 14 وكان ‌حاتم ‌من شعراء الجاهلية. 15 مدحه زياد الأعجم فقال:

إن السماحة والمروءة والندى في
قبة ‌ضربت على ابن الحشرج 16

ضرب به المثل في الكرم، يقال: فلان أكرم من حاتم الطائي. كان من الأجواد الذين لهم صدر واسع ويد باسطة. ذاع صيت كرمه في الآفاق والأطراف حتى وصل إلى قياصرة الروم وأكاسرة إيران، ممدوح في الناس، وابنه عدي أيضا كان كريمًا جوادًا حتى بعد إسلامه، ولا تزال روايات كرمه وحكايات جوده سائرة على ألسنة الناس، وأخباره فى الجود أكثر من أن تحصى وأشهر من أن ينبه عليها.

قصص جود حاتم

منها ما تقول زوجته في كرمه، وهي ماوية امرأة حاتم، يقول ابن أخيها ملحان: قلت لها: يا عمتي، حدثيني ببعض عجائب حاتم. فقالت: كل أمره عجيب، فعن أيه تسأل؟ قلت: حدثيني بما شئت. قالت: أصابت الناس سنة أذهبت الخف والظلف، وأكلت النفوس، فبتنا ذات ليلة وقد أسهرنا الجوع، فأخذ هو عديا وأخذت أنا سفانة، وجعلنا نعللهما حتى ناما، ثم أقبل علي يعللني بالحديث حتى أنام، فمرمقت لما به من الجهد، وأمسكت عن كلامه؛ لينام. فقال لي: أنمت؟ وكررها مرارًا فلم أجبه، فسكت ثم نظر من فتق الخباء فإذا بشخص قد أقبل، فرفع رأسه فإذا امرأة تقول: يا أبا سفانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون من الجوع كالذباب. فقال: أحضريهم فواللّٰه لأشبعنهم. قالت: فقمت سريعًا، وقلت: بماذا؟ فواللّٰه ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل. فقال: واللّٰه، لأشبعن صبيانك مع صبيانها. فلما جاءت الصبية، قام حاتم إلى فرسه فذبحه. ثم قدح نارا، وأججها ودفع إليها شفرة. وقال لها: اشوي وكلي. ثم قال لي: أيقظي صبييك فأيقظتهما. ثم قال: واللّٰه، إن هذا للؤم أن تأكلوا وأهل الحي جياع. فجعل يأتي بيتا بيتا، ويقول: انهضوا، عليكم بالنار، فاجتمعوا حول الفرس وتقنع هو بكسائه وجلس ناحية، فما أصبحوا ومن الفرس على الأرض قليل ولا كثير إلا حوافره، وإنه لأشد جوعا منهم وما ذاقه. 17

ومن ذلك: ‌أغار ‌قوم ‌على طيء، فركب حاتم فرسه وأخذ رمحه ونادى في جيشه وأهل عشيرته، ولقي القوم، فهزمهم وتبعهم. فقال له كبيرهم: يا حاتم، هب لي رمحك، فرمى به إليه. فقيل لحاتم: عرضت نفسك للهلاك، ولو عطف عليك لقتلك. فقال: قد علمت ذلك، ولكن ما جواب من يقول: هب لي؟ 18

ومنها أنه لما مات، عظم على طيء موته، فادعى أخوه أنه يخلفه. فقالت له أمه: هيهات، شتان! واللّٰه ما بين خلقتيكما، وضعته، فبقي واللّٰه سبعة أيام لا يرضع حتى ألقمت إحدى ثديي طفلا من الجيران، وكنت أنت ترضع ثديا ويدك على الآخر. فأنى لك ذلك، قال الشاعر:

يعيش الندى ما عاش حاتم طيء
وإن مات قامت للسخاء مآتم 19

يدل هذا الشعر على أن الفقراء والغرباء لم يخسروا بموت حاتم، بل الخاسر هو الكرم. يقول الزركلي: أخباره كثيرة متفرقة في كتب الأدب والتاريخ، ‌وأرخوا ‌وفاته في السنة الثامنة بعد مولد النبي صلى اللّٰه عليه وسلم . 20

جوده بعد وفاته

ذكر في العقد الفريد حكاية غريبة، تدل على أن حاتم الطائي يجود في قبره -واللّٰه أعلم بالصواب- وهي أن رجلا يعرف بأبي الخيبري مر بقبر حاتم، فنزل به وجعل ينادي: أبا عدي، أقر أضيافك. قال: فيقال له: مهلا، ما تكلم من رمة بالية؟ فقال: إن طيئا يزعمون أنه لم ينزل به أحد إلا قراه كالمستهزيء، فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح: واراحلتاه: فقال له أصحابه: ما شأنك؟ قال: خرج واللّٰه حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليها، فتأملوا راحلته فإذا هي لا تنبعث. فقالوا: قد واللّٰه أقراك، فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها، ثم أردفوه وانطلقوا، فبينما هم في مسيرهم إذ طلع عليهم عدي ابن حاتم ومعه جمل قد قرنه ببعيره. فقال إن حاتما جاء في النوم فذكر لي قولك، وأنه أقراك وأصحابك راحلتك. وقال أبياتا رددها علي حتى حفظتها، وهي:

أبا الخيبري وأنت امرؤ
حسود العشيرة شتامها
فماذا أردت إلى رمة
بداوية صخب هامها
أتبغي أذاها وإعسارها
وحولك غوث وأنعامها
وإنا لنطعم أضيافنا
من الكوم بالسيف نعتامها

وأمرني بدفع راحلة عوض راحلتك، فخذها؛ فأخذها. 21

كان حاتم الطائي من أشهر الناس كرمًا، وما زال هو مضرب الأمثال في الكرم على ألسنة الناس جيلا بعد جيل، ويثنى عليه ويمدح. روي عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول اللّٰه، إن أبي كان يصل الرحم، وكان يفعل ويفعل. قال: إن أباك أراد أمرا فأدركه، يعني الذكر. 22

كعب بن مامة الإيادي

كان كعب بن مامة الإيادي من الأجواد الكرماء الذين اشتهروا بكرمهم في الجاهلية، وكان هذا الوصف راسخًا فيه حتى آثر رفيقه على نفسه لكرمه، فمات ونجا رفيقه. قيل: خرج كعب بن مامة الإيادي في قفل، معهم رجل من بني النمر بن قاسط، وكان ذلك في حر الصيف، فضلوا وشح ماؤهم، فكانوا يتصافنون الماء، وذلك أن يطرح في القعب حصاة، ثم يصب فيه من الماء بقدر ما يغمر الحصاة، فشرب كل واحد منهم قدر ما يشرب الآخر، ولما نزلوا للشرب ودار القعب بينهم، حتى انتهى إلى كعب، رأى الرجل النمري يحد النظر إليه، فآثره بمائه على نفسه. وقال للساقي: اسق أخاك النمري، فشرب النمري نصيب كعب من الماء ذلك اليوم، ثم نزلوا من الغد منزلهم الآخر فتصافنوا بقية مائهم، فنظر إليه كنظره أمس. وقال كعب كقوله أمس. وارتحل القوم وقالوا: يا كعب، ارتحل، فلم يكن له قوة للنهض، وكانوا قد قربوا من الماء. فقالوا: رد یا كعب، إنك وارد، فعجز عن الجواب، ولما أيسوا منه خيموا عليه بثوب يمنعه من السبع أن يأكله، وتركوه مكانه فمات ونجا رفيقه. 23 قال الشاعر:

يجود بالنفس إن ضن البخيل بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وله ولحاتم الطائي يقول:

كعب وحاتم اللذان تقسما
خطط العلا من طارف وتليد
هذا الذي خلف السحاب ومات ذا
في الجد ميتة خضرم صنديد
إلا يكن فيها الشهيد فقومه
لا يسمحون به بألف شهيد 24

شبه الشاعر كرم حاتم الطائي بالسحاب المتراكمة المعصرة في قوله "هذا الذي خلف السحاب" حيث أن جود حاتم الطائي كان كالمطر الغزير الذي ينزل من السحاب. وأشار بقوله "مات ذا في الجد ميتة خضرم صنديد" إلى كعب بن مامة، حيث آثر رفيقه النمري الذي كان معه في السفر على نفسه وأعطاه نصيبه من الماء إلى يومين متواصلين في أيام الحر الشديد، ولم يكن النمري يعرفه بأن الماء قليل يوزع ويشرب، فكان يطلب منه الماء لغلبة عطشه وكعب يعطيه مائه، فآثره على نفسه حتى مات ونجا رفيقه، فذاع صيته وضرب به المثل حتى قيل: أجود من كعب بن مامة.

هرم بن سنان

كان هرم بن سنان ابن أبي حارثة المري من أجواد الجاهلية، وهو سيد غطفان، وكان والده سيد غطفان كذلك، وقد مدحه الشاعر زهير بن أبي سلمى في أبيات لا يزال الناس يحفظونها ويذكرونها عن هرم، وقد كان هرم أعطاه مالًا كثيرًا من خيل وإبل وثياب وغير ذلك مما أغناه، وفيه ورد المثل: أجود من هرم. 25 مدحه زهير بن أبي سلمي:

إن البخيل ملوم حيث كان ولكن
الجواد على علاته هرم
هو الجواد الذي يعطيك نائله
عفوًا ويظلم أحيانًا فيظلم

وقال:

إن تلق يومًا على علاته هرمًا
تلق السماحة منه والندى خلقا 26

وكان عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه ينشد قول زهير بن أبي سلمي في هرم بن سنان:

لو كنت من شيء سوى
كنت المضي لليلة البدر 27

وقال عمر رضي اللّٰه عنه لبعض ولد هرم: أنشدني بعض ما قال فيكم زهير، فأنشده. فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن. فقال: يا أمير المؤمنين، إنا كنا نعطيه فنجزل. فقال عمر رضي اللّٰه عنه: ذهب ما أعطيمتوه وبقي ما أعطاكم. 28

كان هؤلاء الثلاث من أجواد العرب وكرمائهم الذين ذاع صيتهم في الجاهلية بين الناس، وسارت أسماؤهم على ألسنة الناس حتى ألسنة الصبيان في الجود والكرم. قيل: إن الذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية: ‌حاتم بن عبد اللّٰه بن سعد الطائي، وهرم بن سنان المري، وكعب بن مامة الإيادي. 29

وكان في العرب رجال غير هؤلاء الثلاثة، اشتهروا بهذا الخلق الكريم، غير أنهم لم يعرفوا مثل ما عرف الأولون، ولكن مع ذلك كانوا أسخياء في زمانهم وبين أقرانهم، وأجوادا كرماء، منهم خالد بن عبد اللّٰه، وسالم بن قحفان، وأسيد بن عنقاء الفزاري.

خالد بن عبد اللّٰه

كان خالد بن عبد اللّٰه من أجواد العرب. جاء إليه بعض الشعراء ورجله في الركاب يريد الغزو. فقال له: إني قلت فيك بيتين من الشعر. فقال: في مثل هذا الحال. قال: نعم. فقال: هاتهما. فأنشد يقول:

يا واحد العرب الذي
ما في الأنام له نظير
لو كان مثلك آخر
ماكان في الدنيا فقير

فقال: يا غلام، أعطه عشرين ألف دينار. فأخذها وانصرف. 30 كان من الذين يضرب بهم المثل في الجود.

سالم بن قحفان

‌سالم ‌بن ‌قحفان جاء إليه أخو امرأته زائرا فأعطاه بعيرا من إبله، وقال لامرأته: هاتي حبلا، يقرن به ما أعطيناه إلى بعير، ثم أعطاه بعيرا آخر، وقال: مثل ذلك. ثم أعطاه مثل ذلك. فقالت: ما بقي عندي حبل فقال: علي الجمال وعليك الحبال، وأنشأ يقول:

لقد بكرت أم الوليد تلومني
ولم أجترم جرمًا فقلت لها مهلا
فلا تعذليني بالعطاء ويسري
لكل بعير جاء طالبه حبلا
فإني لا تبكي علي إفالها
إذا شبعت من روض أوطانها بقلا
فلم أر مثل الإبل مالا لمقتن
ولا مثل أيام الحقوق لها سبلا

‌فرمت إليه خمارها، وقالت: صيره حبلا لبعضها. وأنشأت تقول:

حلفت يمينا يا ابن قحفان بالذي
تكفل بالأرزاق في السهل والجبل
تزال حبال مبرمات أعدها
لها ما مشى يومًا على خفه جمل
فأعط ولا تبخل إذا جاء سائل
فعندي لها عقل وقد زاحت العلل 31

‌قيل: إن امرأته عاتبته، وأنكرت منه تبذير المال، وقلة الفكر في عواقب الأمور وحاضر العيال. فقال لها: اطرحي اللوم معي فيما تعودته، وأجري عليه من البذل والسخاء، وهيئي لكل بعير جاء طالب له حبلا يقتاده به، حتى تكوني شريكا لي في العطاء ومعينا. واعلمي أني إن أبقيت على مالي وسعيت في توفيرها وتثميرها، وأهنت نفسي بإعزازها، فإنها لا تبكي على إفالها إذا مت وقد طاع لها المرتع من قبل فشبعت من بقول الرياض، وسمنت بالتوديع وحسن الإرعاء، ولا تذكرني بجميل، وإنما يفعل ذلك من أحسنت إليه في حياتي واصطفيته بإسدائي، وآثرته باتخاذ الأيادي إليه، وإكمال النعم عليه. 32

‌عميلة الفزاري

‌كان عميلة الفزاري من أجواد العرب. قيل: كان أسيد بن عنقاء من أكثر أهل زمانه مالا، وأشدهم عارضة ولسانا، وطال عمره، ونكبه دهره، فخرج عشية يتبقل لأهله، فمر به عميلة الفزاري. فقال: يا عم، ما الذي أصارك إلى ما أرى؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصون وجهي عن المسألة. فقال: واللّٰه لئن بقيت إلى غد لأغيرن حالك. فرجع إلى أهله وأخبرها. فقالت: غرك كلام غلام جنح ليل، فكأنما ألقمته حجرا، فبات متململا بين رجاء ويأس. فلما كان السحر سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء، وصهيل الخيل، ولجب الأموال. فقال: ما هذا؟ قيل: عميلة ساق جميع ما عنده فاستخرجه، ثم قسم ماله شطرين، وساهمه عليه، فقال فيه أسيد:

رآني على ما بي عميلة فاشتكى
إلى ماله حالي أسر كما جهر
دعاني فآساني ولو ضن لم ألم
على حين لا بدو يرجى ولا حضر
فقلت له خيرًا وأثنيت فعله
وأولاك ما أثنيت من ذم أو شكر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه
تردى رداء سابغ الذيل وأئتزر
غلام رماه اللّٰه بالحسن يافعًا
له سمياء لا تشق على البصر
كأن الثريا علقت فوق نحره
وفي أنفه الشعرى وفي خده القمر
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه
ذليل بلا ذل ولو شاء لانتصر 33

‌تبين أن العرب كانوا أجود الناس، والجود كان راسخا في نفوسهم، وكان منهم من أعان الآخر بنصف ما لديه من المال، يطعمون المسافر إذا طرق عليهم، ويكرمونه بأطيب الطعام، ولو ذكرت أخبار جودهم في هذا المقال لكثر وطال، وقل المجال، فنكتفي بهذا؛ فإنها نماذج تصور لنا جودهم وسخاءهم، كأنهم مطبوعين على فطرة السخاء.

‌ابنة الكرم

‌كان العرب يسمون شجرة العنب بالكرم، وكذا ما يعصر من الأعناب أي الخمر، يسمونه بابنة الكرم؛ وذلك أنهم يعتقدون أن الخمر له تأثير بليغ في كرم الرجل وجوده، فلا يصعب عليه إعطاء الأموال وإنفاقها عند سكرانه بشرب الخمر، ويفتخرون بالإنفاق في حالة السكر. قال عنترة بن شداد:

ولقد شربت من المدامة بعدما
ركد الهواجر بالمشوف المعلم
بزجاجة صفراء ذات أسرة
قرنت بأزهر في الشمال مفدم
فإذا شربت فإنني مستهلك
مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى
وكما علمت شمائلي وتكرمي 34

‌القمار

‌كما أنهم كانوا يقامرون ظنا بأن القمار من الأمور التي يسهل بها الكرم والجود عليهم، فما يربحون فيه ينفقونه على الفقراء والمساكين، ولذلك قال اللّٰه تعالى في الخمر والميسر: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا 21935 ومن جملة منافعهما في الجاهلية أنهم كانوا ينفقون المال على الفقراء في الخمر والميسر كليهما.

‌لا شك أن العصر الجاهلي كان مجمع الخسائس والرذائل، مخزن الأدناس والأرجاس، منبع العادات والأطوار التي تخالف الطباع السليمة، الطباع التي فطرت على فطرة اللّٰه، لكن كانت في العرب بعض الخصائل والمحامد التي لا تزال تفتخر بها، ومن جملتها الضيافة والسخاء، فكانوا يجودون بكل ما كان عندهم من المال والطعام والشراب، ويضحون بكل ذلك في حماية الجيران، والغرباء الأجانب الذين نزلوا أو طرقوا عليهم، ومن عاداتهم الجاهلية أنهم يذبحون الآبال ويهدون الجمال، وإنفاق مكاسب المياسر وإطعامها الفقراء والمساكين، وتبذير المئات والآلاف من الدراهم والدنانير في مجالس الخمور، فكانت الضيافة والسخاء من أوصاف حميدة شائعة في العرب، راسخة في قلوبهم ونفوسهم، ثم وجهها الإسلام إلى طريق الخير، فجعلوا ينفقون الأمول في سبيل اللّٰه، وفي سبيل الجهاد، ويعطون منها الزكاة للفقراء والمساكين.

‌إن الجيل العربي الجديد ما زالوا يحذون حذو آبائهم وأجدادهم في الخصال الحميدة، ويتبعونهم في الشرف والكرامة، ولا تجد أي جيل في العالم الحاضر أسخى ولا أجود منهم، وقد أنعم اللّٰه عليهم بالوسائل الاقتصادية والمالية بكثرة وفيرة، فهم الكرماء الأسخياء في عامة الأحوال، إلا أن مظاهر جودهم تظهر في شهر رمضان وأيام الحج في الحرمين الشريفين، الحرم المكي والحرم المدني، تتزين الموائد بأنواع من المطاعم والمشروبات، ويضيفون الزائرين والمعتمرين والحجيج الذين أتوا من كل فج عميق، ومن مكان بعيد، وقد حثَّ النبي صلى اللّٰه عليه وسلم على الجود والكرم في سبيل اللّٰه، لا يطمع في ذلك اكتساب سمعة ولا شهرة ولا بدل ولا عوض من الناس، ولا اكتساب علو اسم لقبيلة ولا عائلة، ولا اكتساب مدح الناس ولا ثناءهم عليه. وإن سخاء العرب سواء قديما وحديثا هي قدوة حسنة، للبشرية جمعاء، وما زالوا ينفقون أموالا هائلة في سبيل نشر العلم وفي سبيل الجهاد، بكل رغب وشغف، رضا لوجه اللّٰه الكريم، دون أي طمع من الناس، ولا منفعة دنيوية ولا مصلحة مادية؛ اتباعا بما يأمرهم الإسلام به واقتداء بسيرة النبي الكريم صلى اللّٰه عليه وسلم.


  • 1  توفيق برو، تاريخ العرب القديم، مطبوعة: دار الفكر، بیروت، لبنان، 2001م، ص: 262
  • 2  أبو شهبة محمد بن محمد، السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، ج-1، مطبوعة: دار القلم، دمشق، السوریة، 1427ه، ص: 95
  • 3  أبو علي أحمد بن محمد الأصفهاني، شرح ديوان الحماسة، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2003م، ص: 1102
  • 4  أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي، الأمالي، ج-1، مطبوعة: دار الكتب المصرية، القاهرة، مصر، 1926م، ص: 210
  • 5  رزق اللّٰه بن یوسف لويس شیخو، مجاني الأدب في حدائق العرب، ج-4، مطبوعة: مطبعة الآباء الیسوعیین، بیروت، لبنان، 1913م، ص: 288
  • 6  عبد الكريم النهشلي القيرواني، الممتع في صنعة الشعر، مطبوعة: منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر، د ت. ط، ص: 338
  • 7  أبو المعالي محمود بن عبد اللّٰه شکري الآلوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، ج-1، مطبوعة: مكتبة ابن تيمية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2012م، ص: 70
  • 8  أبو عمر أحمد بن محمد ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، ج-1، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1404هـ، ص: 243
  • 9  أبو القاسم محمود بن عمرو جار اللّٰه الزمخشري، ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، ج-5، مطبوعة: مؤسسة الأعلمي، بيروت، لبنان، 1412هـ، ص: 383
  • 10  أبو الحسن علي بن أبي الفرج البصري، كتاب الحماسة البصریة، ج-3، مطبوعة: مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر، 1999م، ص: 1295-1293
  • 11  الدكتور جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج-8، مطبوعة: دار الساقي، بیروت، لبنان، 2001م، ص: 170
  • 12  أبو المعالي محمد بن الحسن البغدادي، التذكرة الحمدونية، ج-2، مطبوعة: دار صادر، بيروت، لبنان، 1417ه، ص: 289
  • 13  جلال الدین عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، شرح شواهد المغني، ج-1، مطبوعة: لجنة التراث العربي، بیروت، لبنان، 1966م، ص: 208
  • 14  نشوان بن سعيد الحميري، الحور العين، مطبوعة: مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر، 1948م، ص: 115
  • 15  عبد القادر بن عمر البغدادي، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ج-3، مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر، 1997 م، ص: 128
  • 16  أبو يعقوب یوسف بن أبي بکر الخوارزمي، الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم، ج-1، مطبوعة: دار الکتب العلمیة، بیروت، لبنان، 1987م، ص: 95
  • 17  أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، مطبوعة: دار المعارف، القاهرة، مصر، د. ت. ط، ص: 99-98
  • 18  أبو الفتح محمد بن أحمد الأبشيهي، المستطرف في كل فن مستطرف، ج-1، مطبوعة: عالم الكتب، بيروت، لبنان، 1419هـ، ص: 180
  • 19  أيضًا، ج-1، ص: 180
  • 20  أبو الغيث خیر الدین بن محمود الزركلي، الأعلام، ج-2، مطبوعة: دار العلم للملایین، بيروت، لبنان، 2002م، ص: 151
  • 21  أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، ج-1، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1404ه، ص: 244-243
  • 22  أبو الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي، موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، ج-1، مطبوعة: دار الثقافة العربية، دمشق، السورية، 1992م، ص: 165
  • 23  محمد أحمد جاد، قصص العرب، ج-1، مطبوعة: مطبعة عیسی البابي الحلبي، القاهرة، مصر، 1939م، ص: 155
  • 24  أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، ج-1، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1404ه، ص: 246
  • 25  الدكتور جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج-8، مطبوعة: دار الساقي، بيروت، لبنان، 2001م، ص: 170
  • 26  أبو هلال الحسن بن عبداللّٰه العسکري، جمهرة الأمثال، ج-1، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بیروت، لبنان، 1988م، ص: 274
  • 27  عبد العزيز بن محمد ابن جماعة الكناني، المختصر الكبير في سيرة الرسول ﷺ، مطبوعة: دار البشير، عمان، الأردن، 1993م، ص: 72
  • 28  الدکتور جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج-18، مطبوعة: دار الساقي، بیروت، لبنان، 2001م، ص: 110
  • 29  أبو المعالي محمد بن الحسن البغدادي، التذكرة الحمدونية، ج-1، مطبوعة: دار صادر، بيروت، لبنان، 1417ه، ص: 289
  • 30  أبو بكر بن علي ابن حجة الحموي، ثمرات الأوراق في المحاضرات، ج-2، مطبوعة: مکتبة الجمهور العربیة، القاهرة، مصر، د. ت. ط، ص: 247
  • 31  عبد القادر بن عمر البغدادي، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ج-9، مطبوعة: مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر، 1997م، ص: 246
  • 32  أبو على أحمد بن محمد الأصفهاني، شرح دیوان الحماسة، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2003 م، ص: 1107
  • 33  أبو الحسن علي بن موسى ابن سعید الأندلسي، نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، مطبوعة: مكتبة الأقصى، عمان، الأردن، 1982م، ص: 555-554
  • 34  أبو زید محمد بن أبي الخطاب القرشي، جمهرة أشعار العرب، مطبوعة: المطبعة الرحمانية، القاهرة، مصر، 1926م، ص: 157-156
  • 35  القرآن، سورة البقرة 2: 219

Powered by Netsol Online