Encyclopedia of Muhammad

ذكاء العرب وفراستهم

Published on: 04-Apr-2025

كانت العرب مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك، ومشهور أن العرب قد خصت بالحفظ وبقوة الذاكرة، كان بعضهم يحفظ أشعار بعض في سمعة واحدة. 1 ثم يسردونها كذلك، ومن أسباب قوة حفظهم وذاكرتهم أنهم لم يكونوا يستخدمون قواهم الفكرية وقدراتهم الطبيعية في الفنون الفرضية والفلسفات الخيالية التي لا وجود لها في الواقع، ولا يخوضون في قيل وقال. لم يسبق لفراستهم وذكائهم نظير في التاريخ، وقد أورد الإخباريون حكايات وقصص تدل على سرعة وقوة حفظهم، يعلم منها غزارة فهمهم.

حل عقدة القتل بالذكاء

من الغريب في هذا الباب ما روى المرزبان أنه كان رجل كثير المال، صحب عبدين في سفر، فلما توسطا الطريق همّا بقتله، فلما صح ذلك عنده. قال: أقسم عليكما إذا كانا لا بد لكما من قتلي أن تمضيا إلى داري وتنشدا ابنتي هذا البيت. قالا: وما هو؟ قال:

من مبلغ بنتي أن أباهما
للّٰه دركما ودر أبيكما

فقال أحدهما للآخر: لا نرى به بأسا. فلما قتلاه جاءا إلى داره، وقالا لابنته الكبرى: إن أباك لحقه ما يلحق الناس، وآلى علينا أن نخبركما بهذا البيت. فقالت الكبرى: ما أرى فيه شيئا تخبراني به، ولكن اصبر حتى أستدعي أختي الصغرى. فاستدعتها فأنشدتها البيت، فخرجت حاسرة، وقالت: هذان قتلا أبي يا معشر العرب، ما أنتم فصحاء! قالوا: وما الدليل عليه؟ قالت: المصراع الثاني يحتاج إلى أول والأول يحتاج إلى ثان، لا يليق أحدهما بالآخر؟ قالوا: فما ينبغي أن يكون؟ قالت: ينبغي أن يكون:

من مخبر بنتي أن أباهما
أمسى قتيلا بالفلاة مجندلا
لله دركما ودر أبيكما
لن يبرح العبدان حتى يقتلا

قال: فاستخبروهما فوجدوا الأمر على ما ذكرت. 2 تدل هذه الحكاية النادرة على ذكائهم وفطنتهم، حيث كشفت ابنته الصغيرة عن حقيقة الحال، وأفشت سرًا كبيرًا مدفونًا في الغابة، فأخذ ثأر أبيها من القاتلين.

الحكاية النادرة

هي حكاية تدل على قوة الذكاء وحدة الفطنة، قصة نادرة لأبناء نزار، وهو رجل في عمود نسب النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، أوردها الماوردي في أعلام النبوة، 3 وابن الجوزي في المنتظم، 4 وابن الأثير في الكامل، واللفظ له:

ذكر أن نزار بن معد لما حضرته الوفاة أوصى بنيه، وهم أربعة: مضر، وربيعة، وإياد، وأنمار، وقسم ماله بينهم، فقال: يا بني، هذه القبة، وهي من أدم حمراء، وما أشبهها من مالي لمضر، فسمي مضر الحمراء. وهذا الخباء الأسود وما أشبهه من مالي لربيعة. وهذه الخادمة وما أشبهها من مالي لإياد. وكانت شمطاء، فأخذ البلق والنقد من غنمه. وهذه البدرة والمجلس لأنمار، يجلس عليه، فأخذ أنمار ما أصابه. فإن أشكل في ذلك عليكم شيء، واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي. فاختلفوا فتوجهوا إلى الأفعى الجرهمي، فبينما هم يسيرون في مسيرهم إذ رأى مضر كلأ قد رعي. فقال: إن البعير الذي قد رعى هذا الكلأ لأعور. وقال ربيعة: هو أزور. وقال إياد: هو أبتر. وقال أنمار: هو شرود. فلم يسيروا إلا قليلا حتى لقيهم رجل توضع به راحلته، فسألهم عن البعير. فقال مضر: هو أعور؟ قال: نعم. قال ربيعة: هو أزور؟ قال: نعم. وقال إياد: هو أبتر؟ قال: نعم. وقال أنمار: هو شرود؟ قال: نعم، هذه صفة بعيري، دلوني عليه، فحلفوا له ما رأوه، فلزمهم. وقال: كيف أصدقكم وهذه صفة بعيري! فساروا جميعًا حتى قدموا نجران فنزلوا على الأفعى الجرهمي، فقص عليه صاحب البعير حديثه. فقال لهم الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه؟ قال مضر: رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة والأخرى فاسدة الأثر فعرفت أنه أزور. وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره ولو كان أذنب لمصع به. وقال أنمار: وعرفت أنه شرود؛ لأنه يرعى المكان الملتف، ثم يجوزه إلى مكان أرق منه نبتا وأخبث. فقال الجرهمي: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه. ثم سألهم من هم؟ فأخبروه. فرحّب بهم وقال: أتحتاجون أنتم إلي وأنتم كما أرى؟ ودعا لهم بطعام 5 فأكلوا وشربوا. فقال مضر: لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها نبتت على قبر. وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربي بلبن كلبة. وقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أسرى لولا أنه لغير أبيه الذي ينتمي إليه 6. وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع لحاجتنا من كلامنا. وسمع الجرهمي الكلام فعجب، فأتى أمه وسألها، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك، فأمكنت رجلا من نفسها فحملت به. وسأل القهرمان عن الخمر، فقال: من حبلة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم، فقال: شاة أرضعتها لبن كلبة. 7 وسألهم بم علمتم ذلك؟ فقال مضر: رأيت اللحم فوق الشحم، فعلمت أنه غذى بلبن كلبة، فكذلك لحوم الكلاب فوق شحومها. وقال ربيعة: إن الخمر تحدث أنسا فرأيت من هذه حزنا، فعلمت أنها اكتسبت من ثرى القبر حزنا. وقال إياد: علمت أن العاجنة حائض؛ لأني رأيت الخبزة غير مسغسغ باطنها في الثريد بل ظاهرها. وقال أنمار: رأيتك قدمت لنا الطعام ولم تحضر معنا عليه لغير شاغل، فعلمت أن هذا من لؤم الآباء ومن انتسب إليه كريم لا لئيم فقضيت بذلك عليك. 8 فقال لهم الأفعى الجرهمي: صفوا لي صفتكم، فقصوا عليه قصتهم. فقضى بالقبة الحمراء والدنانير والإبل، وهي حمر، لمضر. وقضى بالخباء الأسود والخيل الدهم لربيعة. وقضى بالخادمة، وكانت شمطاء، والماشية البلق لإياد. وقضى بالأرض والدراهم لأنمار. 9

قرع العصا

ومما يدل على غزارة فهم العرب ودقيق نظرهم ما اختصوا به من قرع العصا، وهو أشد أنواع الرموز استخراجا، وأصعبها استنباطًا لخلوه من النطق وللاقتصار فيه على مجرد الفعل؛ فإنه إشارة بالفعل دون القول، وقد ادعى بنو قيس بن ثعلبة أن أول من قرع العصا سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبية قرعها لأخيه عمرو بن مالك، وذلك حين لقي النعمان سعد ومعه خيل بعضها يقاد وبعضها أعراء مهملة، فلما انتهى إلى النعمان سأله عنها. فقال سعد: إني لم أقد هذه لأمنعها، ولم أعر هذه لأضيعها. فسأله النعمان عن أرضه، هل أصابها غيث يحمد أثره. ويروى: شجره. فقال سعد: أما المطر فغزير، وأما الورق فشكير، وأما النافدة فساهرة، وأما الحازرة فشبعى نائمة، وأما البرشاء فقد امتلأت مساربها وابتلت جنابتها. ويروى: جنابثها. وأما الجوف فغدر لا تطلع، وأما الحذف فعزاف لا ينكع، يفتر إذا يرتع. فقال النعمان وحسده على ما رأى من ذرب لسانه: وأبيك إنك لمفوه، فإن شئت أتيتك بما تعيا جوابه. فقال: شئت إن لم يكن منك إفراد ولا إبعاد، فأمر النعمان وصيفًا فلطمه، وإنما أراد أن يتعدى في القول فيقتله. فقال: ما جواب هذه؟ فقال سعد: سفيه مأمور، فأرسلها مثلاً. قال النعمان للوصيف: الطمه أخرى فلطمه. قال: ما جواب هذه؟ قال: لو نهى عن الأولى لم يعد للأخرى فأرسلها مثلاً. فقال النعمان: الطمه أخرى، ففعل. فقال: ما جواب هذه؟ فقال: رب يؤدب عبده. فقال: الطمه أخرى، ففعل. فقال: ما جواب هذه؟ فقال: ملكت فأسجع، فأرسلها مثلاً. فقال النعمان: أصبت فاقعد، فمكث عنده ما مكث، ثم بدا للنعمان أن يبعث رائدا يرتاد له الكلأ، فبعث عمرو بن مالك أخا سعد، فأبطأ عليه فأغضبه ذلك. فأقسم لئن جاء حامدا للكلأ أو ذامًا ليقتلنه. فلما قدم عمرو دخل على النعمان من يمينه. فقال سعد: أتأذن لي فأكلمه؟ قال: إن كلمته قطعت لسانك. قال: فأشير إليه؟ قال: إن أشرت إليه قطعت يدك. قال: فأومئ إليه؟ قال: إذن انزع حدقتيك. قال: فأقرع له العصا. قال: اقرع. فتناول عصا من بعض جلسائه فوضعها بين يديه وأخذ عصاه التي كانت معه، وأخوه قائم، فقرع بعصاه العصا الأخرى قرعة واحدة، فنظر إليه أخوه ثم أومأ بالعصا نحوه. فعرف أنه يقول: مكانك. ثم قرع العصا قرعة واحدة ثم رفعها إلى السماء ثم مسح عصاه بالأخرى. فعرف أنه يقول: قل له لم أجد جدبًا. ثم قرع العصا مرارا بطرف عصاه ثم رفعها شيئا. فعرف أنه يقول: ولا نباتًا ثم قرع العصا قرعة، وأقبل بها نحو النعمان. فعرف أنه يقول: كلمه. فأقبل عمرو بن مالك حتى وقف بين يدي النعمان. فقال له النعمان: هل حمدت خصبا أو ذممت جدبًا فقال عمرو بن مالك: لم أذمم جدبا ولم أحمد بقلا، الأرض مشكلة لا خصبها يعرف ولا جدبها يوصف، رائدها واقف ومنكرها عارف، وآمنها خائف. فقال النعمان: أولى لك، بذلك نجوت فنجا وهو أول من قرعت له العصا. 10

وصية أم لابنتها

ما يدل على ذكاء العرب وفراستهم وصية أم عربية لابنتها قبيل زفافها، وما فيها من آداب وصفات عالية، تحمل في طياتها معاني بليغة ومفاهيم دقيقة، تقوي رباط النكاح من ناحية، وتظهر منها فراسة العرب. ويتعجب الإنسان من التعمق في المعاني المخفية فيها، ومن الخوض بالتفكر في أعماقها، وهي وصية أصدق مما يقول في زماننا المهرة بعلم النفس لناس تختلف طباعهم وأذواقهم. 11

وهي فيما ذكر أن الحارث بن عمر كان ملك كندة لما بلغه جمال بنت عوف بن محلم وكمالها وشدة عقلها، دعا عند ذلك امرأة من كندة، يقال لها عصام، ذات عقل ولسان وأدب. فقال لها: إنه قد بلغني جمال ابنة عوف وكمالها، فاذهبي حتى تعلمي لي علمها، فمضت حتى انتهت إلى أمها، وهي أمامة بنت الحارث، فأعلمها ما قدمت له، فأرسلت إلى ابنتها: أي بنية، هذه خالتك أتتك لتنظر إليك، فلا تستتري عنها بشيء إن أرادت النظر من وجه أو خلق، وناطقيها إن استنطقتك، فدخلت إليها، فنظرت إلى ما لم ير مثله قط، فخرجت من عندها وهي تقول: ترك الخداع من كشف القناع، فأرسلتها مثلًا، ثم انطلقت إلى الحارث. 12 فوصفتها بكلام فصل يدل على أنها ذات شرف وفضل، فأرسل الملك إلى أبيها فزوجه إياها، وبعث بصداقها فجهزت، فلما أرادوا أن يحملوها إلى زوجها قالت لها أمها: أي بنية، إن الوصية لو تركت لفضل في أدب تركت ذلك منك؛ ولكنها للغافل ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغني أبويها وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عنه، ولكن للرجال خلقنا، ولنا خلقوا. أي بنية، إنك فارقت الحواء الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه إياك عليك رقيبا ومليكا، فكوني له أمة يكن لك عبدا وشيكا. يا بنية، احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرا وذكرا: الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعاهد لموقع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا طيب الريح، والكحل أحسن الحسن الموجود، والماء أطيب الطيب المفقود، والتعاهد لوقت طعامه، والهدو عنه حين منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على نفسه وحشمه، فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على العيال والحشم حسن التدبير، ولا تفشي له سرا، ولا تعصي له أمرا، فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، ثم اتقي مع ذلك الفرح إن كان ترحا، والاكتئاب عنده إن كان فرحا، فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له إعظاما أشد ما يكون لك إكراما، وأشد ما تكونين له موافقة أطول ما يكون لك مرافقة. واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك فيما أحببت وكرهت، واللّٰه جل وعز يخير لك. 13 فحملت إليه فعظم موقعها منه وولدت له الملوك السبعة الذين ملكوا بعده اليمن. 14

وقد عقد الإمام أبو الفرج الجوزي في كتاب الأذكياء فصلا، ذكر فيه أذكياء العرب وحكاياتهم وقصصهم، ننقل منها ثلاثة؛ ليتضح منها ذكاء العرب وفراستهم في الأمور:

الأولى: عن أبي حاتم الأصمعي، قال: حدثنا شيخ من بني العنبر، قال: أسرت بنو شيبان رجلا من بني العنبر. فقال لهم: أرسل إلى أهلي ليفدوني. قالوا: ولا تكلم الرسول إلا بين أيدينا فجاؤوه برسول. فقال له: ائت قومي، فقل لهم أن الشجر قد أورق، وأن النساء قد اشتكت ثم قال له: أتعقل؟ قال: نعم، أعقل. قال: فما هذا، وأشار بيده؟ قال: هذا الليل. قال: أراك تعقل. انطلق. فقل لأهلي: عروا جملي الأصهب، واركبوا ناقتي الحمراء، وسلوا حارثة عن أمري. فأتاهم الرسول، فأرسلوا إلى حارثة فقص عليهم الرسول القصة. فلما خلا معهم. قال: أما قوله "أن الشجر قد أورق" فإنه يريد أن القوم قد تسلحوا. وقوله "أن النساء قد اشتكت" فإنه يريد أنها قد اتخذت الشكا للغزور وهي الأسقية. وقوله "هذا الليل"، يريد يأتوكم مثل الليل أو في الليل. وقوله "عروا جملي الأصهب" يريد ارتحلوا عن الصمان. وقوله "اركبوا ناقتي" يريد اركبوا الدهناء. فلما قال لهم ذلك تحملوا من مكانهم فأتاهم القوم، فلم يجدوا منهم أحدا. 15

الثانية: حدث ابن الأعرابي عن بعض مشايخه أن رجلًا من بني تميم كانت له ابنة جميلة، وكان غيورا، فابتنى لها في داره صومعة وجعلها فيها وزوجها من أكفائه من بني عمها، وأن فتى من كنانة مر بالصومعة فنظر إليها ونظرت إليه، فاشتد وجد كل واحد منهما بصاحبه، ولم يمكنه الوصول إليها، وأنه افتعل بيتا من الشعر ودعا غلاما من الحي، فعلمه البيت، وقال له: ادخل هذه الدار، وأنشد كأنك لاعب، ولا ترفع رأسك ولا تصوبه ولا تومئ في ذلك إلى أحد. ففعل الغلام ما أمر به. وكان زوج الجارية قد أزمع على سفر بعد يوم أو يومين فأنشد الغلام يقول:

لحى اللّٰه من يلحي على الحب أهله
ومن يمنع النفس اللجوج هواها

قال: فسمعت الجارية ففهمت، فقالت:

إلا إنما بين التفرق ليلة
وتعطى نفوس العاشقين مناها

قال: فسمعت الأم ففهمت، فأنشأت تقول:

إلا إنما تعنون ناقة رحلكم
فمن كان ذا نوق لديه رعاها

قال: فسمع الأب فأنشأ يقول:

فأنا سنرعاها ونوثق قيدها
ونطرد عنها الوحش حين أتاها

فسمع الزوج ففهم فأنشأ يقول:

سمعت الذي قلتم فها أنا مطلق
فتاتكم مهجورة لبلاها

قال: فطلقها الزوج وخطبها ذلك الفتى، وأرغبهم في المهر، فتزوجها. 16

الثالثة: قال عيسى بن عمر: ولي أعرابي البحرين فجمع يهودها. وقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ قالوا: نحن قتلناه وصلبناه. قال: فقال الأعرابي: لا جرم، فهل أديتم ديته؟ فقالوا: لا. فقال: واللّٰه، لا تخرجون من عندي حتى تؤدوا إلي ديته. فما خرجوا حتى دفعوها له. 17

لقد كان العرب أذكى الناس عقلاً وأشدهم فراسةً، وكانت لفراستهم مظاهر في أمور تافهة، وعلى الأخص يحلون عقدًا ومعضلات بوفور عقلهم، ويعقلون أمورًا تتوقف فيها عقول عامة الناس، لما كانوا يعيشون عيشة طبيعية في الصحراء العربية.

قوة ذاكرة العرب

من رحمة اللّٰه تعالى أن كان العرب يملكون ‌قوة ‌الذاكرة، وسرعة الحفظ والاستظهار، مما يسر لها الجمع والاستحضار، ولا عجب في ذلك؛ فقد جبلوا على ذلك، ومرنوا عليه منذ نشأتهم لاضطرارهم إليه، فصار عندهم شيئًا مألوفًا، وساعدهم عليه صفاء أذهانهم ونقاؤها، وما زال يضرب المثل بقوة حفظهم، ويعتد تراث الأدب الجاهلي وقصائدهم ودواوينهم كنزا مخزونا في الأدب الشعري. ومن المؤكد أنه لم يحفظ بالكتابة في السطور بل كانت محفوظة في الصدور،كما أنهم يحفظون أنسابهم وأحسابهم، والوقائع التاريخية بأسانيدها، وكانوا يؤثرون الحفظ على الكتابة، ومما يدل على اهتمامهم بالحفظ أن قال أعرابي: حرف في تامورك خير من عشرة في كتبك. قال أبو عمر: التامور علقة القلب. 18 وقال منصور الفقيه:

علمي معي حيث ما يممت أحمله
بطني وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي
أو كنت في السوق كان العلم في السوق 19

كان العرب أحفظ الناس، وأذكاهم، يعلمون أنسابهم وأحسابهم وأسماء آبائهم وأجدادهم وأمهاتهم حتى كانوا يعرفون أسماء خيولهم وأنسابها. أما كونهم أحفظ من غيرهم فلأن الغالب منهم أميون، لا يقرؤون ولا يكتبون، بل إن جميع عرب البوادي كذلك، ومع هذا حفظوا على سبيل التفصيل أيامهم وحروبهم ووقائعهم وما قيل فيها من شعر وخطب، وما جرى من المفاخرات والمنافرات بين قبائلهم، وضبطوا أنسابهم وأسماء فرسانهم الذين نزلوا في ميادين حروبهم وأنهم من أي قبيلة وإلى أي أب ينتهون من الآباء الأولين وأسلافهم السابقين، وكان أحدهم يقول الشعر بلغت أبياته ما بلغت، فما هم إلا أن سمعوه فانتقش في صحائف خواطرهم، وتمثل في خيالهم، وهذا مما تساوي فيه العامة والخاصة منهم، والصغير والكبير، والذكر والأنثى من أحيائهم، وذلك مما لا يستريب فيه أحد، ولا يشك فيه ذو نظر، وكانوا إذا جرت بينهم حادثة غريبة، أو اتفقت له نكتة غريبة ضربوا بها الأمثال، وسارت بين القبائل تلك الأقوال، فلا تغيب هاتيك الوقائع عن أفكارهم، ولا تزول مدى الليالي والأيام عن خزائن خواطرهم، وقد دون المتأخرون ما تلقوه من الثقات، وما سمعوه من أفواه الرواة، ومن أيامهم وأخبارهم وأمثالهم وأشعارهم، فبلغ ذلك ما بلغ من المجامع والأسفار حتى تجاوزت دوائر العد والانحصار. هذا، مع أن ذلك بالنسبة إلى ما لم يصل إليهم كقطرة من بحار، وذروة من جبال وقفار. وأما الغالب من شعرهم ولغتهم وأيامهم الأول فقد ذهب بذهابهم وبقي في الصدور ولم ينقل، وأخذوا في أكفانهم كثيرا من العلوم والفنون حيث لم يجدوا من يحفظ حقوقها ويصون، وكان لكل شاعر منهم راوية يحفظ عنه ما يقول، وما ينشد في المواقع والمجامع حين يصول ويجول، وكل راوية من رواتهم كان يحفظ من الأراجيز والقصيد وسائر فنون الشعر ما يفوت الإحصار والحصر. هذا الأصمعي من متأخريهم قال: ما بلغت الحلم حتى رويت اثني عشر ألف أرجوزة للأعراب. وكان خلف الأحمر أروى الناس للشعر وأعلم بجيده. وبالجملة العرب أحفظ الناس، ولا يكاد يمتري في ذلك إلا من عدم الإحساس. وادعى الهمداني أنه لم يصل إلى أحد من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب، وبين ذلك على أتم وجه وأثبته. ثم قال: والعرب أصحاب حفظ ورواية. وحكي أن للعسل عندهم ثمانين اسما، وللثعبان مائتين، وللأسد خمسمائة، وللجمل ألفا، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا جرم أن استيعاب مثل هذه الأسماء يستدعي حافظة قوية، وللعرب من قوة الحافظة وحدة الفكر ما لايسع أحدًا إنكاره. 20

تبينت من ذلك تيارات طبعية للعرب بكل وضوح، وأنهم لم يكونوا متعودين على تقييد العلم بالكتابة، ولا مؤثرين لها على الحفظ، ولا شك أن الرجل يتعود على طباع وأعراف المجتمع الذي يولد وينشأ ويترعرع فيه، والمواهب الفطرية والكسبية كلها تزداد بكثرة استخدامها في مجالاتها، وما نرى في العالم الحاضر من الخصائص والمآثر في الأقوام والأجيال إنما هي طباع فطرية انطبعوا وجبلوا عليها، وورثوها من آبائهم وأجدادهم، ولا يخفى على من له أدنى ممارسة بالأدب العربي أن هذا الحفظ كان مذاقهم العربي الخالص، فتركوا بحرا ذخارا من العلوم والمعارف، والدليل عليه تراثهم العلمي والفني الهائل الذي لا يزال يعلب دورا هاما في ميادين العلوم والفنون. ولما بعث فيهم سيد البرية صلى اللّٰه عليه وسلم اعتنقوا الإسلام، ووجّه الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم حفظهم القوي من الأشعار والأبيات والأيام والحروب إلى حفظ القرآن والأحكام الشرعية الإسلامية، وقد أثر ذلك أثرًا بالغًا في الحفاظ على الشريعة الإسلامية الغراء، كما حرضهم النبي صلى اللّٰه عليه وسلم على تفسير القرآن وشرح الأحكام، فبدأوا بعد ذلك يتعودون على تقييد العلم بالكتابة والحفظ معًا، ومن جراء ذلك برزت كثير من العلوم الإسلامية والفنون الشرعية إلى حيز الوجود.

ولا شك أن العرب في الأيام الحاضرة متحلون بهذه السمات والصفات العالية؛ لكن من الأغرب أن الجيل الذكي الحاذق المتطور الذي يستطيع أن يحل أصعب العقد والمعضلات بالإشارات والكنايات وقرع العصا، والذي أدهش البشرية قاطبةً بذكائه وفطانته وفراسته، كيف أصبح فريسةً لدهاء سياسي عالمي؟ وكيف اختدع لدسائس اليهود والهنود؟ فلا يميز بين المسلم وغيره، حتى تجد أكثر علاقات العالم العربي الدبلوماسية والاقتصادية مع الدول غير الإسلامية، ومن خلالها يقومون بتمويل الريالات والدولارات خارجيًا فيها كالهند وغيرها من دول تبرز بغضاؤها وشحناؤها للإسلام والمسلمين، ولا يقومون بتمويل في الدول الإسلامية التي يواجهها ضيق مالي، مع أنهم إخوانهم الإسلاميون، كلمتهم واحدة، وعقيدتهم واحدة، وليس ذلك إلا لأمرين، إما أن العرب قد نسوا تاريخ أسلافهم وأكابرهم، أو فقدوا أهلية التمييز بين الصواب والخطأ، وإلا فلا يمكن لعاقل أن يقوي أعداءه ويساعدهم وإخوانه ضعفاء يحتاجون إلى المساعدة، وقد بعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في العرب ليوجّه صفاتهم الجليلة وصلاحياتهم العظيمة إلى أمر ديني، ويصرفها في نشر الإسلام وإعلاء كلمة اللّٰه العليا، وقد قام بذلك النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، فأصبح الإسلام دينا عالميا سرمديا، ولكن من الأسف الشديد أنه بدأ يصبح غريبا بغفلة المسلمين عنه وحبهم للمادية والترفه، وقد حان الوقت لكي يعود العرب إلى أصلهم، وحان وقت سيادتهم وخلافتهم، وقيادتهم للأمة الإسلامية المرحومة، وأن يأخذوا زمام الأمة الإسلامية.


  • 1  أبو عمرو یوسف بن عبد اللّٰه ابن عبد البر القرطبي، جامع بیان العلم وفضله، ج-1، مطبوعة: دار ابن الجوزي، الریاض، السعودية، 1994م، ص: 295
  • 2  أبو المعالي محمود بن عبد اللّٰه شكري الآلوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، ج-1، مطبوعة: مكتبة ابن تيمية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2012م، ص: 32-33
  • 3  أبو الحسن علي بن محمد البغدادي الشهير بالماوردي، أعلام النبوة، مطبوعة: دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان، 1409ه، ص: 186-187
  • 4  أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج-2، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1412هـ، ص: 235-233
  • 5  قيل: إن الأفعى الجرهمي أقام رجلًا كجاسوس له عليهم؛ ليخبره بما يحدث ويجري بينهم.
  • 6  وقيل: قال إياد: ما رأيت كاليوم خبزًا قط إلا أن التي عجنته حائض. ( عبد الملك بن حسين العصامي المكي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، ج-1، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1998م، ص: 197)
  • 7  أبو الحسن علي محمد الشهير بعز الدين ابن الأثير الجزرى، الكامل في التاريخ، ج-1، مطبوعة: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1417هـ، ص: 631-633
  • 8  عبد الملك بن حسين العصامي المكي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، ج-1، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1998م، ص: 197-198
  • 9  أبو الحسن علي محمد الشهير بعز الدين ابن الأثير الجزرى، الكامل في التاريخ، ج-1، مطبوعة: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1417ه، ص: 633
  • 10  أبو المعالي محمود بن عبد اللّٰه شكري الآلوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، ج-1، مطبوعة: مكتبة ابن تيمية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2012م، ص: 34-33
  • 11  محمد كرم شاہ الازهرى، ضیاء النبی ﷺ ، ج-1،مطبوعة: ضیاء القرآن ببلى كیشنز، لاهور،باكستان، 2013ء ،ص:308
  • 12  أبو طالب المفضل بن سلمة، الفاخر، مطبوعة: دار إحياء الكتب العربية، بیروت، لبنان، 1380ه، ص: 184
  • 13  أبو طالب المفضل بن سلمة، الفاخر، مطبوعة: دار إحياء الكتب العربية، بیروت، لبنان، 1380ه، ص: 186
  • 14  أبو المعالي محمود بن عبد اللّٰه شكري الآلوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، ج-2، مطبوعة: مكتبة ابن تيمية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2012م، ص: 19
  • 15  أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، الأذكیاء، مطبوعة: دار إحياء العلوم، بيروت، لبنان، 1990م، ص: 119-120
  • 16  أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، الأذكیاء، مطبوعة: دار إحياء العلوم، بيروت، لبنان، 1990م، ص: 120-121
  • 17  أيضًا، ص: 123
  • 18  أبو عمرو یوسف بن عبد اللّٰه ابن عبد البر القرطبي، جامع بیان العلم وفضله، ج-1، مطبوعة: دار ابن الجوزي، الریاض، السعودية، 1994م، ص: 294
  • 19  أيضًا، ج-1، ص: 295
  • 20  أبو المعالي محمود بن عبد اللّٰه شكري الآلوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، ج-1، مطبوعة: مكتبة ابن تيمية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2012م، ص: 38-40

Powered by Netsol Online