طرفة بن العبد كان شخصية عبقرية فذة، من الطبقة الأولى، أشعر الشعراء بعد امرئ القيس، وأحد أصحاب المعلقات، وأجود الشعراء قصيدةً، وقد قال الشعر صغيرًا. 1 كان في حسب كريم وعدد كثير، شاعرًا جريئًا على الشعر. 2 أشعاره قلة قليلة؛ لوفاته في عنفوان شبابه، ولم يطل عمره، ولذلك ذكره الإمام السيوطي في الشعراء المقلين الذين كانوا مشاهير، قليل شعرهم في أيدي الناس. 3
ولد طرفة بن العبد حوالي عام خمسمائة وثلاثة وأربعين للميلاد، لأب بكري وأم غير بكرية. 4 أبوه كان بكريًا أي: من قبيلة بكر بن وائل، أما أمه فكانت غير بكرية، إنما كانت من بني ضبيعة، أخت الشاعر المتلمس. وطرفة هو ابن أخي المرقش الصغير، وكان من المقربين إلى عمرو بن هند ملك الحيرة، ومن المنادمين لأخيه أبي قابوس وهو ابن أخت جرير بن عبد المسيح المعروف بـالمتلمس. 5
كأن أسرته كلها كانت كوكبة من الشعراء المشهورين؛ فإن أباه وجده، وعميه المرقش الأكبر والأصغر كلهم كانوا شعراء، وطرفة يروي للمرقش الأصغر عمه، ويأخذ عنه، ويروي هذا عن عمه المرقش الأكبر ويحتذي شعره، وكان يروي عن خاله المتلمّس الذي ربي في أخواله من بني يشكر. 6 والمتلمس جرير بن عبد المسيح، من بنى ضبيعة، كان من أشهر وأجود الشعراء في العهد الجاهلي. وأخواله بنو يشكر، وكان ينادم عمرو بن هند ملك الحيرة، وهو الذى كان كتب له إلى عامل البحرين مع طرفة بقتله. 7 فولد طرفة ونشأ في أسرة أدبية تحب الشعر والشعراء والأدباء.
اسمه عمرو، اشتهر بلقبه طرفة، كان من بني قيس، بطن من بكر بن وائل. وطرفة بن العبد هو ابن سفيان بن سعد بن مالك بن عباد بن صعصعة ابن قيس بن ثعلبة. 8 وقيل: مكان صعصعة ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل 9 بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وكان في حسب كریم. 10 كان طرفة من العرب العدنانيين، من بكر بن وائل، من بني قيس، وكان كما قلنا في حسب كريم، ونسب جليل.
لقبه طرفة بالتحريك في الأصل، واحدة الطرفاء وهو الإثل، وبها لقب طرفة، واسمه عمرو، ولد في البحرين في بيت عريق الأصل والمحتد، فقد والده في سن مبكرة، فنشأ يتيم الوالد ينفق بغير حساب، فضيّق عليه أعمامه، ورفضوا أن يعطوه حقه، وجاروا على أمّه، فظلموها حقها. 11 وقيل: الطرفة شجرة، وهي الطرف، والطرفاء جماعة الطرفة شجر. 12 وإنما لقب بها؛ لبيت قاله وهو:
لا تعجلا بالبكاء اليوم مطرفا
ولا أميريكما بالدار إذ وقفا. 13
طرفة مأخوذ من مطرفا في هذا البيت، وغلب عليه حتى اشتهر به وترك اسمه الحقيقي. قتل وهو ابن عشرين سنة، فيقال له ابن العشرين. 14 وقيل: إن كنيته أبو عمرو. 15
كان أبوه بكريًا، أي: من بكر بن وائل، وأمه من بني ضبيعة، واسمها وردة، وهي بكرية أو غير بكرية، فذهب جمهور المؤرخين إلى أنها كانت غير بكرية، وهي أخت الشاعر المعروف بالمتلمس، ويقولون: كان طرفة يروي عن خاله المتلمس الذى ربي في أخواله من بني يشكر. 16 ويقول ابن قتيبة: أمّه وردة من رهط أبيه، وفيها يقول لأخواله وقد ظلموها حقّها. 17 ولعل ابن قتيبة ظن زوجة العبد البكرية أم طرفة، وقد كان العبد متزوجًا من امرأة أخرى بكرية هي أم معبد، غير وردة أم طرفة. 18 فكانت له زوجتان، أم معبد وهي بكرية، ومعبد ابنها الحقيقي، ووردة وهي من بني ضبيعة بن ربيعة، وهي أم طرفة.
توفي أبوه وكان صغيرا، وكان هو أيضًا صغيرًا، فنشأ يتيم الوالد ينفق بغير حساب، فضيّق عليه أعمامه ورفضوا أن يعطوه حقه، وجاروا على أمّه، فظلموها حقها. 19 وذلك لأنها كانت زوجة ثانية لأبيه، فأصيب كلاهما بأنواع من الآلام والمصائب حتى اضطرت أمه أن تخالف الأعراف الجاهلية، فغادرت بيت زوجها وذهبت إلى إخوتها، وأبى أعمامه أن يقسموا مال أبيه، وإليه أشار طرفة في أبياته:
ما تنظرون بمال وردة فيكم
صغر البنون ورهط وردة غيب
قد يبعث الأمر العظيم صغيره
حتى تظل له الدماء تصبب
والظلم فرق بين حي وائل
بكر تساقيها المنايا تغلب
والصدق يألفه الكريم المرتجي
والكذب يألفه الدني الأخيب 20
تشير هذه الأبيات إلى حرب البسوس، وفيها بيان سوء معاملة أعمامه معه، وظلمهم أمه؛ لكن لما كبر طرفة وبلغ إلى سن الرشد، أخذ ماله الموروث، وأنفقه إنفاق غِرّ جاهل، مقبل على الحياة، مستنفد متع اليوم، هاربًا من التفكير بغد، لا يضمن فيه لنفسه شيئًا، وظل كذلك ينفق عن سعة، والأصدقاء يتحلقون حوله، إلى أن افتقر ونفد ماله. تلفت حواليه، فوجد الأصدقاء يبتعدون، والرفاق يتخلون، والأهل الذين كانوا يلومون وينصحون باتوا ناقمين متجنبين. لقد غدا وحيدًا، فتألم وندت عنه صيحة أسى "أفردت إفراد البعير المعبد"، وكانت التجربة قاسيةً، تركت أثرًا عميقًا في نفسه، وتجلت في شعره. 21
لم يكن طرفة مجرد شاب غرير، قال الشعر وهو يافع، وظل يقوله حتى عُلق على خشب الصلب، ويد المنية تلتف حول عنقه، كذلك لم يكن طرفة مجرد شاعر قتله الشعر في ريعان صباه وهو ابن العشرين ربيعًا، إنما كان طرفة نموذجًا فريدًا لتجربة حياتية عميقة غنية، لقد اشتهر طرفة بمعلقته التي عدت ثاني معلقات الجاهلية أهمية، وعرف طرفة بالصورة التي أعطاها عن نفسه في هذه المعلقة؛ صورة المظلوم يعتب على ظالميه من أهله ويتألم من جفوتهم، في حين لا يريد لهم إلا الخير، ويقدم لهم شعره وسيفه يذودان عنهم ويطعنان في أعدائهم، وصورة الشاب المقبل على الحياة؛ يعب منها وكأنه مع العمر في سباق، أو كأنه استشعر قصر العمر فأحب أن يستغل كل دقيقة منه في استنفاد المتع؛ لكن هذه الصورة تمثل جانبًا واحدًا من شخصية طرفة. 22
كان طرفة شاعر هجاءً، جريئا على هجاء قومه وغيرهم. كانت أخته عند عبد عمرو بن بشر بن مرثد، وكان عبد عمرو سيد أهل زمانه، فشكت أخت طرفة شيئًا من أمر زوجها إليه، فقال بهجوه قصيدة، وفيها:
ولا عيب فيه غير أن له غنى
وأن له كشحا إذا قام أهضما
وأن نساء الحي يعكفن حوله
يقلن عسيب من سرارة ملهما 23
فسخر في هذه الأبيات من زوج أخته ومن سمانة جسمه.
كان طرفة رجلًا شابًا جلدًا صلبًا منذ نعومة أظفاره، مات أبوه وهو صغير، وأكل أعمامه ماله، وأبوا تقسيمه، فهجاهم، واشتهر بمعلقته التي عاتب فيها ابن عمه مالكا؛ لأنه لم يعن أخاه معبدا في جمع شتات إبله. 24 فعاتب فيها مالكًا لا على أنه لم يعن أخاه معبدا، بل الحقيقة أن طرفة استعانه لنفسه لا لأخيه، ذكروا: أن طرفة عاد من أخواله إلى أهله لا يلوي على شيء ولا يملك شروى نقير، فحمله أخوه معبد بن العبد على رعاية إبله، فأهملها فأنبه أخوه وقال له: تُرى إن أخذت تردها بشعرك هذا؟ فقال طرفة: لا أخرج حتى تعلم أن شعري يردّها، فلجأ طرفة إلى ابن عمه مالك ليعينه على استرجاعها من آخذيها، وكانوا قوماً من مُضر فانتهره مالك بعنف، فتألم الشاعر ونظم معلقته واصفًا حالته وجور أهله عليه. 25
أما معبد هذا فكان أخاه لأبيه، ولم يكن شقيقه، لكن مع ذلك لم يتعاطف، ولم يتعامل معه معاملة حسنة، ولم يراع الإخاء بينهما، بل أذله واستصغره وسخر من شعره؛ وليس ذلك إلا لكونه بكريا من أب وأم، كان أخا طرفة لأبيه لا شقيقه، إلا أنه لم يتعاطف معه ولا واساه نظرًا إلى علاقة الأخوة بينهما، بل أذله واستصغر أشعاره وحقرها، وذلك لأن أم طرفة كانت غير بكرية، أما أم معبد فكانت بكريةً وأبوهما أيضًا كان بكريًا، وهذا التمييز النسبي كان واقعا بين طرفة ومعبد، وبذلك يتفوق عليه معبد حتى أجبره على رعي الإبل، فإن معبد بالنسبة إلى البكريين هو أصيل الجذرين، وبصفته الولد البكر يستقطب العناية ويكون له نوع من السلطة على الأخ الصغير، والواقع أن طرفة حين احتاج إلى مساعدة معبد أخيه لم يبادر هذا إلى تقديم مساعدة عفوية، بل عرض عليه عملًا عنده، وهو عمل غير ذي شأن ولا بمستوى طموح الشاعر، بل إنه أقرب إلى عمل السوقة والخدم والخاملين، وهو رعي الإبل، وحين أحس معبد من أخيه تقصيرًا في رعاية إبله، وانشغالًا عنها بالركض خلف القوافي الشاردة، قرعه وأنبه وهدده بأنه لن يتهاون معه إذا فقدت الإبل، وأن الشعر لن تكون له أدنى شفاعة عنده، وحين فقدت الإبل، لم يتهاون معبد مع الشاعر، بل حقق فعلًا تهديده، وطلب إعادة إبله بأية وسيلة، لم يرق ولم يسامح كما يفعل الأخ، ولم يقدم قط مساعدة، بل بقي متفرجًا مع المتفرجين، منتظرًا شأن الأغراب البعداء، ووجد طرفة نفسه يدق الأبواب، ويسعى إلى باب كل جواد كريم من عائلته طلبًا لعون، ولا عون، ليس إلا اللوم والتقريع والتهرب، ويجد طرفة نفسه مرةً أخرى فريسةً للأسى والتخلي، ويأسف على أنه لم يكن من ذوي اليسار، ولا من السادة كثيري الخير، كثيري الولد، ويتمنى لو أنه كان قيس بن خالد أو عمرو بن مرثد، ويسمع السيدان الكريمان بالأمنية، فيعدانها مدحًا يتوجب عليهما إثابته فيثيبان. 26 فبالنسب البكري يتقدم ويتفوق معبد على أخيه طرفة؛ لأنه من أم غير بكرية، وأصبح عرضة للجفاء والغرابة والنكارة بالنسبة إلى الأقرباء والأعزاء والأصدقاء فضاق قلبه، وضاقت عليه الأرض، لكن ابتسم له الحظ؛ إذ وجد من يقبض عملة الشعر ويقايضها بالإبل حيث مدح في هذه القصيدة سيدين من أقربائه بكثرة المال والولد. وقال:
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالدٍ
ولو شاء ربّي كنت عمرو بن مرثدِ
فأصبحت ذا مالٍ كثيرٍ وزارني
بنون كرام، سادة لمسوّدِ
فدعاه أحدهما عمرو، وكان له سبعة أولاد، فأمرهم فدفع كل واحد إلى طرفة عشرة من الإبل، ثم أمر ثلاثة من أبناء بنيه، فدفعوا له مثل ذلك، فردّ إبل أخيه، وقد ردّها بشعره كما قال، وأقام ينفق من الباقي حتى نفد. 27 فخامره الزهو بموهبته الشعرية، إذ غدت رأسمالا مؤكد الربح. وهكذا رد الإبل لمعبد، وبقي له منها ما يغذي مرحلة جديدة من اللهو والإنفاق والتبذير إلى أن يفتقر. 28
يتبين أن طرفة كان شابا غير مبال، مستمتعا بما لديه، منفقا له في أمور لا جدوى فيها، ومبذرا لها في أتفه المصارف، سارح الفكر دون الاهتمام بشيء، غارقا في لذائذ الدنيا، ومن حسن حظه أنه كان شاعرا يجلب له الشعر الأموال الطائلة.
لا شك أن طرفة قال شعرًا في صغر سنه، لكنه كان مجبولا على الشعر، حيث ولد في أسرة ولدت الشعراء، فأخذ حظا وافرا من نصيبه، يقال: إن أول شعر قاله طرفة أنه خرج مع عمّه في سفر، فنصب فخا، فلمّا أراد الرحيل قال:
يالك من قبرة بمعمر
خلا لك الجوّ فبيضي واصفري
ونقّري ما شئت أن تنقّري
قد رفع الفخّ فماذا تحذري
لا بدّ يوما أن تصادى فاصبري 29
ارتجل شعرا إبان اصطياده الطيور مع عمه زمن صباه، وورث ملكة الشعر من شعراء أسرته، فكان شاعرا جليلا في سن مبتكر.
كان طرفة شاعرا لبيبًا، له منزلة منشودة ومكانة مرموقة اعترف بها المتقدمون والمتأخرون، فعده عبد القادر البغدادي أكبر الشعراء بعد امرئ القيس كما ذكره في كتابه بقوله: وهو أشعر الشعراء بعد امرئ القيس ومرتبته ثاني مرتبة، ولهذا ثني بمعلقته، وقال الشعر صغيرًا. قال ابن قتيبة: هو أجود الشعراء قصيدة، وله بعد المعلقة شعر حسن، وليس عند الرواة من شعره وشعر عبيد إلا القليل. 30
حكي عن أبي عبيدة: مرّ لبيد بمجلس لنهد بالكوفة، وهو يتوكّأ على عصا، فلمّا جاوز أمروا فتى منهم أن يلحقه فيسأله: من أشعر العرب؟ ففعل، فقال له لبيد: الملك الضليل، يعني امرأ القيس، فرجع فأخبرهم، قالوا: ألّا سألته: ثم من؟ فرجع فسأله، فقال: ابن العشرين، يعني طرفة، فلما رجع قالوا: ليتك كنت سألته: ثم من؟ فرجع فسأله، فقال: صاحب المحجن، يعني نفسه. 31 يقول ابن سلّام إنه أشعر الناس واحدة وهي قوله:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
وقفت بها أبكي وأبكي إلى الغد
وفيها أبدع في وصف ناقته إذ لم يترك فيها صغيرة ولا كبيرة إلا رسمها، وكأنه يريد أن ينحت لها تمثالًا لا يغادر ذاكرة الجاهليين، والتصوير والحكمة جميعا يتداخلان في شعره، وهو من هذه الناحية يشبه النابغة وزهيرًا، على أنهما يتقدمانه ويفضلانه، وأيضًا فإنه مقل والأسطورة تجري في أخباره. 32
كان طرفة - وما كان ابن عشرين - أشعر الناس بعد امرئ القيس، من الطبقة الأولى، ومعلقته ثاني أجود المعلقات السبعة.
اشتهر طرفة بشعره الجذاب بين العباد والبلاد، وبفطانته القوية في صباه، ثم أسهم في سمعته وشهرته قصيدته التي أنشدها وهجا فيها ابن عمه مالكا، وكان قد لجأ إليه ليعينه على استرجاع الإبل من آخذيها، وكانوا قومًا من مضر، فانتهره مالك بعنف، فتألم الشاعر ونظم معلقته واصفًا حالته وجور أهله عليه، وذكر فيها سيدين من أقربائه فمدحهما بكثرة المال والولد. كما ذكر فيها حسن عشيقته بأسلوب معجب جذّاب، وطليعتها:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفا بها صحبي على مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
كأن حدوج المالكية غدوة
خلايا سفين بالنواصف من دد
عدولية أو من سفين ابن يامن
يجور به الملاح طورا ويهتدي 33
وهجا ابن عمه على ما عاتبه فقال:
فما لي أراني وابن عمي مالكا
متى أدن منه ينأ عني ويبعد
يلوم وما أدري علام يلومني
كما لامني في الحي قرط بن معبد
وأيأسني من كل خير طلبته
كأنا وضعناه إلى رمس ملحد
على غير ذنب قلته، غير أنني
نشدت فلم أغفل حمولة معبد
وقربت بالقربى، وجدك إنني
متى يك أمر للنكيثة أشهد
وإن أدع للجلى أكن من حماتها
وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد
وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم
بكأس حياض الموت قبل التهدد
بلا حدث أحدثته، وكمحدث
هجائي وقذفي بالشكاة ومطْردي
فلو كان مولاي امرءا هو غيره
لفرج كربي أو لأنظرني غدي 34
هذه هي معلقته التي ذكر فيها أصعب أوضاع حياته وأمرّها، وذكر فيها ظلم أعمامه وجور أبنائهم، وهي التي جلبت إليه الأموال والآبال.
فاق طرفة أترابه وأمثاله في البلاغة والفصاحة، وكان في هذا المجال من الذين يشار إليهم بالبنان، وأكبر دليل على ذلك قصيدته المعلقة البليغة، رويت حكاية له تدل على تمهره وتبحره في الأدب العربي وحسن بيانه وفصاحة لسانه، وهي أن المسيب بن علس أنشد بين يدي عمرو بن هند:
وقد أتلافى الهم عند احتضاره
بناج عليه الصيعرية مكدم
وطرفة بن العبد حاضر، وهو غلام فقال: استنوق الجمل؛ وذلك لأن الصيعرية من سمات النوق دون الفحول، فغضب المسيب، وقال: ليقتلنه لسانه، فكان كما تفرس فيه، يضرب للرجل يكون في حديث، ثم يخلطه بغيره وينتقل إليه. 35
وقد قال له المتلمس أيضًا: ويل لهذا الفتى من لسانه. وقد صحت مقولة المتلمس فيه، فقد جنى عليه لسانه وأودى به إلى القتل. 36 وللأبيات التي نظمها في ذلك العمر أثر بالغ وتفوق غالب على جميع أشعاره التي نظمها طيلة حياته. قال الجاحظ: وليس في الأرض أعجب من طرفة بن العبد وعبد يغوث؛ وذلك أنا إذا قسنا جودة أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية. 37
تبين أن تعريضه في أشعاره على الرؤساء والأمراء دليل على مهارته التامة في فنون شعرية، ومثل هذه التعاريض قد ألقته في مواقف خطرة وأوضاع حرجة حتى نشبت نائباتها أظفارها في روحه.
لما سخر من زوج أخته عمرو بن بشر بن مرثد، وكان عبد عمرو، وهو سيد أهل زمانه يومئذ، واستهزأ بسمنه في أشعار، فانتشرت حتى وصلت إلى عمرو بن هند، فخرج يتصيّد ومعه عبد عمرو، فأصاب حمارًا فعقره، وقال لعبد عمرو: انزل إليه، فنزل إليه فأعياه، فضحك عمرو بن هند، وقال: لقد أبصرك طرفة حين قال: ولا عيب، البيت. وكان عمرو بن هند شريرًا، وكان طرفة قال له قبل ذلك:
ليت لنا مكان الملك عمرو
رغوثا حول قبّتنا تخور
فقال عبد عمرو: أبيت اللعن! الذي قال فيك أشدّ مما قال في، قال:
وقد بلغ من أمره هذه؟ قال: نعم، فأرسل إليه وكتب له إلى عامله بالبحرين، فقتله، ويقال: إن الذي قتله المعلى بن حنش العبدي، والذي تولى قتله بيده معاوية بن مرة الأيفلي، حي من طسم وجديس. 38
كان طرفة عند موته ابن عشرين أو ست وعشرين سنة، فلقب بابن العشرين، ولما أمر عمرو فكتب إلى رجل من عبد القيس بالبحرين وهو المعلى ليقتله، فقال له بعض جلسائه: إنك إن قتلت طرفة هجاك المتلمس، رجل مسن مجرب، وكان حليف طرفة، وكان من بني ضبيعة، فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمس، فأتياه، فكتب لهما إلى عامله بالبحرين؛ ليقتلهما، وأعطاهما هدية من عنده وحملهما، وقال: قد كتبت لكما بحباء، فأقبلا حتى نزلا الحيرة، فقال المتلمس لطرفة: تعلمن واللّٰه! إن ارتياح عمرو لي ولك لأمر عندي مريب، وإن انطلاقي بصحيفة لا أدري ما فيها؟ فقال طرفة: إنك لتسيئ الظن، وما نخاف من صحيفة إن كان فيها الذي وعدنا وإلا رجعنا فلم نترك منه شيئا؟ فأبى أن يجيبه إلى النظر فيها، ففك المتلمس ختمها، ثم جاء إلى غلام من أهل الحيرة فقال له: أتقرأ يا غلام؟ فقال: نعم، فأعطاه الصحيفة فقرأها. فقال الغلام: أنت المتلمس؟ قال: نعم. قال: النجاء! قد أمر بقتلك، فأخذ الصحيفة فقذفها في البحيرة، فقال المتلمس لطرفة: تعلمن واللّٰه! أن الذي في كتابك مثل الذي في كتابي، فقال طرفة: لئن كان اجترأ عليك، ما كان بالذي يجترئ علي، وأبى أن يطيعه، فسار المتلمس من فوره ذلك حتى أتى الشام، وخرج طرفة حتى أتى صاحب البحرين بكتابه، فقال له صاحب البحرين: إنك في حسب كريم، وبيني وبين أهلك إخاء قديم، وقد أمرت بقتلك، فاهرب، إذا خرجت من عندي فإن كتابك إن قرئ لم أجد بدًا من أن أقتلك، فأبى طرفة أن يفعله، فجعل شبان عبد القيس يدعونه ويسقونه الخمر حتى قتل. 39
كان من عادة العرب أنهم يرثون أمواتهم، ويبكون عليهم، ويشقون جيوبهم إذا ماتوا، فقد ذكروا أن طرفة بن العبد خاطب ابنة أخيه معبد بهذا البيت:
فإن مت فانعني بما أنا أهله
وشقي علي الجيب يا ابنة معبد 40
حكي أن أخته عاتبت عمرو بن هند وذكرت مثالبه، وقيل: إن أخاه معبدا استعوض فرسانًا دية عن دمه. ملخص الكلام في هذا المقام أن طرفة منذ صباه كان مصابًا بالشدائد والمشاكل، مقهورا مهجورا، نشأ وترعرع يعاني كل ما يواجهه من الظلم والعدوان، شابا مهملًا متهورًا، جريئًا رابط الجأش، وقتل بهذه الجرأة، وفي عنفوان شبابه ذاع صيته وانتشرت سمعته التي يكتسبها الشعراء في نهاية أعمارهم، ولعله ورث السمعة بفنه الشعري الذي ورثه من أسرته، على كل حال، كانت له قدم راسخة في فن الشعر، وقد بلغ فيه إلى أوج الكمال وهو ابن عشرين سنة.