كانت الشجاعة من أبرز صفات العرب العالية، يضحون بأنفسهم في الحفاظ على عزهم وعرضهم وشرفهم وفضلهم، وقد مات كثير منهم في سبيل ذلك، دافعوا عن حميتهم العربية والعصبية بالسيف دائما، وخاضوا في حروب دامية استمرت إلى سنين، عاشوا في ظلال السيوف والرماح والسهام. ما كان شغلهم المضاجعة والمداعبة في المفارش والمنازل، بل كانت هويتهم التضحية بالحياة في ساحة الحروب الدامية، دفاعا عن العرض والشرف، شرف النفس وشرف القبيلة. وكانوا كلهم مجبولين على البسالة والشجاعة، وعلى الجرأة والحرية، للحفاظ على العز وصيانة العرض ومحامة الحريم، وقد اختار الغالب منهم سكنى البوادى على الحضر؛ لما كان فقد العز فيه، والجبن إنما ينشأ من حب رغد العيش، وطيب الحياة، وعدم المبالاة بما يزري بعلو الحسب، وأين ذلك منهم؟ وبهذا نعلم ما كانوا عليه من الشجاعة والإقدام على المهالك، ولقد كابد منهم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم في تأليفهم واتحاد كلمتهم ما جاوز منه الحزام الطبيين، وسال منه عرق القرية. 1 وبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في تلك النفوس المطبوعة على العداوة والشحناء روح المودة والأخوة، فأصبحوا إخوانا متحابين بعدما كانوا أعداء بغيضين، وليس ذلك -أي تحويل الطباع البشرية من ناحية إلى ضدها- أمر سهل، فقد تحمل النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في ذلك متاعب وشدائق شاقة، ولكن يشهد التاريخ على أن الألفة التي ألفها اللّٰه في قلوبهم عن توسط النبي صلى اللّٰه عليه وسلم ليس لها مثل ولا مثال في القديم ولا الحديث، نطق القرآن بذلك: إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا 1032
كان مظهر بسالة العرب ورجولتهم هي الحمية العربية والأنفة، كان أشرافهم وأسيادهم يرغبون في تزويج النساء اللاتي كن ذات شرف وكرامة، ذات فضل ونبالة، عفيفة محصنة مبتعدة عن الفحشاء، يفضلون العفاف على الجمال، والخلق الكريمة على الحسن، يتزوجون بامرأة تحمل مسؤولية الزوجية والأمومة، وبامرأة ذات حسب كريم ونسب عال. 3 وذلك لكي يكون ولدهم مجبولين على العصبية والحمية، والأنفة والحرية، والإباء والغيرة. فكانوا يريقون الدماء ويهرقونها في سبيل الحفاظ على عفافهم وعصمتهم، فلم يكن أحد ينظر إليهم بحقارة وازدراء، وإلا فلا يتحملون ساكتين عن ذلك، ولما كان لديهم اعتبار للغيرة والحمية فيحفظون أنسابهم وأحسابهم حفظهم للوقائع الحربية.
إنها لحكاية جرت بين أم عمرو بن هند وأم عمرو بن كلثوم، فكان عمرو بن هند شديد الملك. فقال يومًا لجلسائه: هل تعلمون أن أحدا من العرب من أهل مملكتي يأنف من أن تخدم أمه أمي؟ قالوا: نعم، عمرو بن كلثوم؛ فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة، وعمها كليب بن وائل، وزوجها كلثوم، وابنها عمرو. فسكت عمرو على ما في نفسه، ثم بعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويسأله أن تزير أمه ليلى أمه هندا. فقدم عمرو بن كلثوم في فرسان تغلب ومعه أمه ليلى، فنزل على شاطئ الفرات، وبلغ عمرو بن هند قدومه، فأمر بحجرته فضربت فيما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فصنع لهم طعاما، ثم دعا الناس إليه، فقرب إليهم الطعام على باب السرادق، وهو وعمرو بن كلثوم وخواص من الناس في السرادق، ولأمه هند في جانب السرادق قبة، وليلى أم عمرو بن كلثوم معها في القبة. وقد قال عمرو بن هند لأمه: إذا فرغ الناس من الطعام فلم يبق إلا الطرف فنحي خدمك عنك، فإذا دعوت بالطرف فاستقدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء. ففعلت هند ما أمرها به حتى إذا نادى بالطرف. قالت هند لليلى: ناوليني ذلك الطبق. قالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. فقالت: ناوليني، وألحت عليها. فقالت ليلى: وا ذلاه، يال تغلب! فسمعها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه والقوم يشربون، ونظر عمرو بن كلثوم فعرف الشر وقد سمع قول أمه: يال تغلب، ونظر إلى سيف عمرو بن هند معلقًا في السرادق منصلتًا، فضرب به رأس عمرو بن هند، فقتله. وخرج فنادى: يال تغلب! فانتهبوا ماله وخيله، وسبوا النساء، ولحقوا بالجزيرة. 4
وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة؟ قال: فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة فيقف فيقول:
وسائلة بالغيب عني ولو درت
مقارعتي الأبطال طال نحيبها
إذا ما التقينا كنت أول فارس
يجود بنفس أثقلتها ذنوبها
ثم يحمل فلا يقوم له شيء إلا أقعده، فإذا كان من الغد عاد لمثل ذلك. 5 فكانوا أشجع الناس وأشدهم غيرةً في معارك الحرب. وقال أبو عبیدة: خرج درید بن الصمة في فوارس من بني جشم حتى إذا کانوا في واد لبني كنانة یقال له الأخرم، وهم یریدون الغارة على بني كنانة، رفع لهم رجل في ناحیة الوادي ومعه ظعینة، فلما رآه قال لفارس من أصحابه: صح به: "خل الظعینة وانج أنت بنفسك" وهم لا یعرفونه، فانتهى إلیه الفارس، فصاح به وألح علیه، فلما رأى إباءه ألقى زمام الراحلة وقال للظعینة:
سيري على رسلك سير الآمن
سير رداح ذات جأش ساكن
إن انثنائي دون قرني شائني
أبلي بلائي وأخبري وعايني
ثم حمل عليه فصرعه، وأخذ فرسه وأعطاه الظعينة، فبعث دريد فارسًا آخر لينظر ما صنع صاحبه، فلما انتهى إليه ورآه صريعا صاح به فتصامم عنه، فظن أنه لم يسمع، فغشيه، فألقى زمام الراحلة إلى الظعينة، ثم رجع وهو يقول:
خل سبيل الحرمة المنيعة
إنك لاق دونها ربيعة
في كفه خطية مطيعة
أو، لا فخذها طعنة سريعة
فالطعن مني في الوغى شريعة
ثم حمل عليه فصرعه، فلما أبطأ على دريد بعث فارسا ثالثا لينظر ما صنعا، فلما انتهى إليهما رآهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته ويجر رمحه. فقال له: خلّ سبيل الظعينة. فقال للظعينة: اقصدي قصد البيوت، ثم أقبل عليه يقول:
ماذا تريد من شتيم عابس
ألم تر الفارس بعد الفارس؟
أردهما عامل رمح يابس
ثم حمل عليه فصرعه، وانكسر رمحه، وارتاب دريد، وظنّ أنهم قد أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل، فلحق دريد ربيعة وقد دنا من الحي، ووجد أصحابه قد قتلوا: فقال: أيها الرجل، إنّ مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحا، والخيل ثائرة بأصحابها، فدونك هذا الرمح، فإني منصرف إلى أصحابي فمثبّطهم عنك. فانصرف إلى أصحابه فقال: إن فارس الظعينة قد حماها وقتل أصحابكم وانتزع رمحي، ولا مطمع لكم فيه، فانصرفوا، فانصرف القوم. 6
ومن الأنفة العربية والإباء أن رجلا من خثعم قدم مكة ومعه بنت وضيئة، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج. فقيل له: عليك بحلف الفضول. فوقف عند الكعبة ونادى: يا لحلف الفضول، فاجتمعوا حوله، واستردوا الجارية من نبيه. وقالوا له: ويحك! فقد علمت من نحن وما تعدهدنا عليه؟ فأعادها إليه. 7 وهذه البسالة التي جبل عليها العرب، يعيشون لها ويموتون، وقد أنشد شعراؤهم في بسالتهم وأثنوا عليها، وملأوا دواوين ضخمة من قصائد وأبيات حماسية، نذكرها بعض أشعار الحماسة فيما يلي.
أنشد شعراء العرب في الحماسة أشعارا وقصائد كثيرة، قال حيان بن ربيعة الطائي يفتخر بقومه:
لقد علم القبائل أن قومي
ذو وجد إذا لبس الحديد
وإنا نعم أحلاس القوافي
إذا استعر التنافر والنشيد
وإنا نضرب الملحاء حتى
تولى والسيوف لنا شهود 8
ويقول المتنبي:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما 9
وهي البسالة الشديدة في ساحة الحرب؛ فإن الجرح على العقب يدل على الجبن، والجرح على الصدر، وقطر الدم على الأقدام دليل على الإقدام والخوض في المعركة الحاسمة.
يقول شريح بن عاديا الهروني:
وإنا لقوم لا نرى القتل سبه
إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا
وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه
ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا
وليست على غير الظبات تسيل
صفونا فلم نكدر وأخلص سرنا
إناث أطابت حملنا وفحول
فنحن كماء المزن ما في نصابنا
كهام، ولا فينا يعد بخيل 10
كانوا يضحون بأنفسهم وأولادهم وأموالهم في سبيل الحفاظ على العز وصيانة العرض، والحمية والغيرة، وكانت حياتهم عبارة عن الخوض في الحروب والمعارك، وقتل الهامات وشرب كأس الموت في عنفوان الشباب، ويتمادحون بالموت قعصًا، ويتسابون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه، وأول من قال ذلك رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، ومدح أعرابى قوما فقال:
يقتحمون الحرب كأنما
يلقونها بنفوس أعدائهم
وقال عبد اللّٰه بن الزبير لما بلغه قتل أخيه مصعب: إن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وعمه، إنا واللّٰه لا نموت حتفًا ولكن قعصا بأطراف الرماح، وموتا تحت ظلال السيوف. وقال السموأل بن عادياء:
وما مات منا سيد في فراشه
ولا ظل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظباة نفوسنا
وليست على غير الظباة تسيل 11
إن العرب كانت نشأتهم في جو عربي فصيح، وطبع صحراوي وسيع، تربوا على مطاعم صحراوية طازجة، فكبروا وشبوا على المروءة والخشونة، التي هي طبيعة الصحراء، كانوا أبسل قوم وأشجعهم، يخوضون في الحروب لأتفه الأسباب كسبق الخيل في المضمار وسبقها في شربة الماء، وتستمر الحروب إلى سنين حتى تبيد فيها إحدى الطائفتين وتفنى، والسيوف مشهرة والرماح ملطخة والسهامة ملونة.
يقول ابن خلدون: إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقا وجبلة، وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له، فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي القدر، فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك. والخشب أيضا إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، فيخربون السقف عليه لذلك، فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران، هذا في حالهم على العموم، وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه، فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والملك، بطلت السياسة في حفظ أموال الناس وخرب العمران. وأيضًا فلأنهم يكلفون على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثمن. 12
كانت سيوفهم مشهرة، ورماحهم مشتبكة، وسهامهم متعطشة للدماء، وأبطالهم وفرسانهم مقاتلة، عاشوا للحرب والقتال، وللخراب والهلاك، أعرضوا عن الملاذ الدنيوية والشهوانية، وعن رغد العيش والترفة، مدحوا الجرحى والقتلى في ساحة الحرب، وهجوا الموتى في المفارش، حسبوا القتل في الحرب مفخرة، والموت في الفراش مذمة، وكل ذلك كان سهلا عليهم في سبيل الحفاظ على العز وصيانة العرض، وحماية الجيران والجدران، يقول عنترة بن شداد:
دعوني في الحياة أموت عزيزًا
فموت العز خير من حياتي 13
وأنشد في قافية اللام
لا تسقینی ماء الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم
وجهنم بالعز أطيب منزل 14
كان العرب بطبيعتهم أبطالا فرسانا، ذوي مروءة وإباء، يكرهون الظلم والضيم، من قبل القوي على الضعيف، ومن الرجل على المرأة، يحمون الضعفاء والنساء، والمسافرين واللاجئين.
إن طباع العرب بشكل عام وطباع أهل البادية منهم بشكل خاص كانت مجبولة على الحرية والاستقلال، على الإباء والأنفة، لم تكن عندهم درجات ولا طبقات في الشرف والنبل، كانوا سواسية في ذلك، كأنه في نظام جمهوري في الشرف والفضل. ولذلك مازالوا يفتخرون بدمهم الصافي، ولسانهم الفصيح، وشعرهم البليغ، وسيفهم المشهر، وخيلهم الجيد، وحسبهم العالي، ونسبهم الشريف، والعربي بفطرته يعشق الحرية، يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلا، أو أن ينال في شرفه، وعرضه ولو كلفه ذلك حياته. 15 وقد رسخت في قلوبهم وتركزت في أذهانهم كلمة الحرية والنخوة، ولدته أمهاتهم أحرارا، فعاشوا أحرارا، كان الإباء أمرا محبوبا والصغار منكرا.
كانت العرب معروفة بقوة وصلابة في الأبدان وبخشونة في الطباع، وقسوة في القلوب، وبعزم مصمم في النوايا، وهي خصال طبيعة فطرية وقوى معنوية فيهم، كأنها غايات نفسانية تتطلب مقتضيات الشجاعة والبسالة، والعرب كانوا متخلقين بهذه الخلق، فالتقدم والإقبال على الموت أهون عليهم من التخلف والإدبار عنه، فهم أفضل نموذج للقوى البدنية والقلبية الصلبة الشديدة. يقول السموأل:
محرمة أكفال خيلي على القنا
ومكاومة أعناقها ونحورها
حرام على أرماحنا طعن مدبر
وتندق منا في الصدور صدورها 16
إن الشجاعة تثير الغضب، والغضب يتسبب للقتل والحرب، أما الحلم فهو إمساك النفس عن هيجان الغضب، كما أن التحلم إمساكها عن قضاء الوطر، والحلم من آثار العقل وغير منفك عنه. وقد اشتهر العرب، ولا زالت مآثرهم تتلى على مدى الدهور، وممر الأزمنة والعصور، بكل ما يتم الحلم به؛ فإن حلم الإنسان لا يتم إلا بإمساك الجوارح كلها، اليد عن البطش، واللسان عن الفحش، والعين عن فضولات النظر، ومن دقق النظر في شعرهم وخطبهم ووقف على لغتهم، تبين لديه كل ذلك، فقد كانوا يحرمون الظلم ويتحالفون على الكف عنه، ويتناهون عن الفحشاء والمنكر، ولغتهم تكنى عن كل ما يستقبح التصريح به تحرزا من التلفظ بكلمة تأباها مروءتهم. 17 وللعرب كلمة تقولها عند طلب العفو والحلم، وفي مواطن الغضب والتشاجر، هي: "إذا ملكت فاسجح"، يقصد بها طلب العفو والحلم عند ثوران الغضب، ولهم كلمات أخرى كثيرة في الحث على التحلي بالحلم والصبر. 18
ولو لم يكونوا أملك لنفوسهم، وأقدر على مجاراة عقولهم لما تمكنوا على الارتداع، إذا قارنت تلك الكلمة منهم السماع، فهم أحلم في النفار من كل حليم، وأسلم في الخصام من كل سليم، وإذا أمنوا بجفوة أحد لم يوجد منهم ناردة، ولم يخفر عليهم ببادرة، ولا حليم غيرهم إلا ذو عثرة، ولا وقور سواهم إلا ذو هفوة. 19 فكان فيهم رغم نخوتهم الحلم التام، وبه يهدأ غضبهم عند ثورانه لكلمة تقرع أسماعهم، فيتركون الغضب ويقدمون على العفو.
قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري، لقد اختلفنا إليه في الحكم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه، بينما نحن عند قيس بن عاصم، وهو قاعد في قبائه، محتب بكسائه، أتته جماعة، فيهم مقتول ومكتوف. فقالوا: هذا ابنك قتله ابن أخيك، فو اللّٰه ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه، ثم التفت إلى ابن له في المسجد. فقال: أطلق عن ابن عمك، ووار أخاك، واحمل إلى أمه مئة من الإبل، فإنها غريبة، وأنشأ يقول:
إني امرؤ لا شائن حسبي
دنس يغيره ولا أفن
من منقر في بيت مكرمة
والغصن ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقول قائلهم
بيض الوجوه أعفة لسن
لا يفطنون لعيب جارهم
وهم بحسن جواره فطن 20
من ناحية كان العرب كانوا أشجع الناس وأغيرهم، ومن ناحية كانوا أحلم الناس وأشدهم صبرا وعفوا، وكل هذه الخصال متأصلة فيهم، متغلغلة في طباعهم، جبلةً وخلقةً، وهي أجمل صورة للعصر الجاهلي، كما أن المساوئ والمفاسد التي كانت شائعة فيهم أبشع صورة له، فهم إن كانوا منغمسين في بعض القبائح والشنائع إلا أنهم لم يكونوا عارين عن الخلق الحميدة والأوصاف الجميلة. ولا شك أن العالم العربي الحاضر مجبول عليها، ونرى في الأيام الحاضرة جيلا عربيا مجاهدا، جيلا فلسطينيا، جيلا مقاتلا مكافحا في قطاع غزة، يدافع عن الأمة الإسلامية وعن كلمتها، وعن شرفها وفضلها، يدافع لتحرير البيت المقدس، أرض الأنبياء، أرض فلسطين المقدسة، من أيدي العدو الصهيوني الهمجي، الظالم الغاشم، الفتاك السفاك، دون عدد وعدة، والآباء يقدمون أبناءهم في الحرب واحدا تلو الآخر، والأمهات تودعنهم بفرحة ومسرة. ومن المؤسف أن الدول العربية المعاصرة كلها نائمة بنوم غافل عميق، ولو أعدت سلطتها وقوتها الموهوبة، العسكرية والحربية، والمالية والمادية، والسياسية والاقتصادية، والتقنية والتكنولوجية، ولو خاضت في الحرب ضد العدو الصهيوني الهمجي، عدو الإسلام والمسلمين، وعدو العرب كلهم، لاحتلت الأرض كلها، وانقادت لها القوى العالمية بأسرها، ومن المحتوم أن يحكم العرب العالم ويؤسسوا الخلافة الإسلامية من جديد.