كانت العرب أمةً أميةً، لا تقرأ ولا تكتب، يملكون قوة الذاكرة التي تحفظ كل شيء ولا تنساه، بالإضافة إلى ذلك، كانت فيهم صفات ومحاسن متحضرة، وأنواع من معالجات الآداب كالبراعة في الشعر، والبلاغة في الخطابة، والفصاحة في الأمثال وغيرها. وأوجدوا أساليب أدبية ونثرية بأنواعها، ولم يتعلموها أو أخذوها من شعب آخر، وافتنوا في أساليب الآداب الفنية دون أية استفادة من أحد، ومن جملة فنونهم الأدبية النثر الجاهلي.
النثر على نوعين: نثر عادي، ونثر فني، وكان شائعا في العصر الجاهلي بنوعيه، ولم يكن للنثر العادي قيمة أدبية في المجتمع الجاهلي العربي، أما النثر الفني فكان له شأن رفيع ومقام عال لدى كافة العرب، ولعب دورا مهما في حياة العرب، ويشتمل على القصص والخطابة والأمثال والوصايا والحِكم وسجع الكهان وغير ذلك، وكان من أفضل أنواع الأدب لديهم حكاية القصص والأساطير، ومن أحوجهم إليه الخطابة، والأمثال حوارهم اليومي، والوصايا عرف عام لهم، وسجع الكهان جزء من أدبهم الفني الغامض.
لم يكن الأدب العربي مدونا ولا مرتبا؛ لقلة القراء والكتاب، والذين كان لهم ربط بالقراءة والكتابة لا يقصدون بذلك إلا أغراض سياسية وتجارية دون أن يدونوا الأدب العربي، ليستفيد به الناس، نعم، وكانوا ينقلون الآداب الفنية شفويًا جيلًا عن جيل، ومعظم ما وصل إلينا من تراثهم الجاهلي أنواع فنية هي الأسهل في الحفظ، أما ما كان منها أصعب حفظًا فرويناه بالمعنى.
النثر هو كلام جيد يرسل بلا وزن ولا قافية، وهو خلاف النظم. 1 وقيل: كل ما ليس شعرًا فهو نثر. 2 وقيل: هو الجزء المقابل للشعر من أجزاء الكلام. 3
كان للجاهليين نثر عادي، يتكلمون به في شؤونهم وتصريف أمورهم، ونعني به النثر المنمق اللفظ الذي صيغ في قالب أدبي يثير المشاعر ويحرك العواطف. 4 وهذا الضرب لا يعد شيء منه أدبًا إلا ما قد يجري فيه من أمثال وغيرها. 5 وكانت العرب في الجاهلية أمة أميّة، قل فيها القارئ والكاتب. 6 لكن ليس معنى ذلك أنهم لم يعرفوا القراءة والكتابة، فقد عرفوهما، غير أن صعوبة وسائلها جعلتهم لا يستخدمونها في الأغراض الأدبية الشعرية والنثرية، ومن ثم استخدموها فقط في الأغراض السياسية والتجارية. 7 أما ما وصل إلينا من نصوص جاهلية فهي مكتوبة في أغراض أخرى، كتبت في تقديم نذور، وفي معاملات من بيع وشراء، وتثبيت ملك، أو تحديد حدود، أو في قوانين وأوامر، ولم تكتب في أغراض أدبية خالصة. 8
أما النثر الفني فقد كانوا يعرفونه، بل كانوا بارعين فيه، على أن الذي قالوه من النثر في جاهليتهم لم يصل إلينا وافرًا وفرة الشعر؛ لأن الأدب الجاهلي روي في البداية عن طريق المشافهة لا عن طريق الكتابة، ينقله راو عن راو سماعًا، ولم يدون إلا في العصر العباسي الأول، والذاكرة أقدر على حفظ الشعر وروايته من حفظ النثر؛ لأن ما للشعر من أوزان وقواف يعين على استذكاره وضبطه، وإذا أخطأت الذاكرة فيه فكلمة موضع كلمة، أو شطر موضع شطر، ولكن جوهر القصيدة سليم غالبًا، وليس كذلك النثر، وما روي لنا من نثرهم أنواع، قصص تروى فيها أخبارهم وأيامهم ومفاخرتهم، ومواعظ دينية، ولكن أكثر المأثور من النثر الجاهلي هو الخطب والأمثال. 9
كان معظم النثر الجاهلي قصصا قديمة عربية وأساطير عملاقية أدبية، فقد وجدت عندهم أنواع متعددة من القصص والأمثال والخطابة وسجع الكهان، ومن المؤكد أنهم كانوا يشغفون بالقصص شغفًا شديدًا، وساعدهم على ذلك أوقات فراغهم الواسعة في الصحراء، فكانوا حين يرخي الليل سدوله يجتمعون للسمر 10. 11 والسمر هو الحديث بالليل. 12
كانوا يروون في السمر قصصا عجيبة وأساطير غريبة، تروى فيها أخبارهم وأيامهم ومفاخرتهم. 13 ومن أبواب قصصهم المقال على ألسنة الحيوانات، كالقصص المقال على لسان النعامة، من أنها ذهبت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين، والقصص التي وضعوها عن الغراب وعن الضفدع والهدهد والهديل وغير ذلك مما يميل إليه العامة بصورة خاصة. 14 ومنها قصص الملوك والأبطال وأسياد القبائل والأيام، وقصص عن الأسفار وعن مكابدها، ومنها قصص تاريخية لكنها غير محفوظة بنقاوتها وأصلها، وقصص الأقوام القديمة التي بقيت ذكرياتها في أذهان الجاهليين، وقصص النوادر والنكات من القصص المعروفة عندهم، وأخرى كثيرة.
يبدو أن هذا النوع من أنواع النثر كثيرًا ما تكون ألفاظه ألفاظ الراوي، احتفظ بالمعنى ورواه من لفظه. 15 وكان القصاص يفيض على قصصه من خياله وفنه، حتى يبهر سامعيه، وحتى يملك عليهم قلوبهم، فيحولهم من الشفقة إلى محبة الانتقام، ومن الضحك إلى الجد، وعيونهم تلمع في وجوههم السمر، وقلوبهم تخفق من آن إلى آن. 16
كانت القصص المستعارة نوعا من قصص العرب، أخذوه من أمم أخرى، وصاغوه في قالب عربي، مع مذاق عربي ومزاج جاهلي، كقصة شريك مع المنذر، وهي أنه أتاه في يوم بؤسه رجل يقال له: حنظلة، فأراد قتله، فطلب منه أن يؤجله سنة، فقال: ومن يكفلك؟ فكفله شريك بن عمرو، فلما كان من القابل جلس في مجلسه ينتظر حنظلة فلم يأت، فأمر بشريك، فقرب؛ ليقتله، فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليه، فتأملوه فإذا هو حنظلة، فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما، وأبطل تلك السنة. فإن لهذه القصة أصلًا يونانيًا معروفًا. 17
وكان منها بعض القصص الشائع المتواتر عن الجاهليين، نحو قصة يومي البؤس والنعيم، وقصة سنمار وأمثال ذلك، قصص وإن اقترن بأسماء جاهلية، إلا أن أصوله غير عربية، دخلت العرب من منابع خارجية، من منابع يونانية وفارسية ونصرانية، وهو أيضًا من القصص الواردة عند شعوب أخرى، بدليل وجود شبه ومثيل لها في أساطير الأعاجم، وفي حكايات النصارى. 18
الخطابة كالشعر، لحمتها الخيال، وسداها البلاغة، وهي مظهر من مظاهر الحرية والفروسية، وسبيل من سبل التأثير والإقناع، تحتاج إلى ذلاقة اللسان، ونصاعة البيان، وأناقة اللهجة، وطلاقة البديهة. 19 وأكثر المأثور من النثر الجاهلي هو الخطب والأمثال. 20 والحياة الجاهلية جعلت الخطابة ضرورية لهم، فهم في اجتماعاتهم وفي عرض آرائهم، وفي القيام بواجباتهم في السفارات والوفود، كانوا - ولا شك- يحتاجون إلى الإفصاح عما يريدونه؛ رغبةً في الوصول إلى مقاصدهم، وكلما كان إفصاحهم أقوى وأعذب كان تأثيره في القلوب أشد، فساعد ذلك على وجود الخطابة بينهم. 21
كان للخطيب عندهم مقام كبير؛ للسانه وفصاحته وبيانه وقدرته في الدفاع عن قومه والذب عنهم والتكلم باسمهم، فهو في هذه الأمور مثل الشاعر، لسان القبيلة ووجهها. 22 وكان الخطباء ينبرون في الأسواق العظام ينصحون قومهم ويرشدونهم، على نحو ما هو معروف عن قس وخطبته بسوق عكاظ، وربما نصح الخطيب عشيرته وقومه الأقربين، كبعض ما يروى عن عامر بن الظرب وأكثم بن صيفي. 23
وأكثر ما روي لنا من الخطب الجاهلية كان يدور حول أحد الأمرين. الأول: المنافرة، وهو أن يفخر رجل على رجل، أو قبيلة على قبيلة، فيتنافرا إلى حكم يحكم بينهما، وقبل الحكم يقوم كل خطيبٍ يعدد مفاخره أو مفاخر قومه، فكان ذلك مجالًا صالحًا للخطيب يستعرض فيه بلاغته وفصاحته. والثاني: الوفود، فقد كان شائعًا عند العرب وفودهم على الملوك والأمراء في حاجاتهم، كالذي روي في كثير من الأحيان من إيفاد الوفود لملوك الحيرة إذ كانوا مقصد العرب. 24
كان من عادات الخطباء في الجاهلية أن يقفوا على شيء مرتفع أو نشر من الأرض؛ ليشرف الخطيب على مستمعيه، فيروا شخصه حين يسمعون كلامه، وليستطيع الخطيب أن يضم إلى كلامه الخطابي إشارات اليد وانفعالات الوجه وحركات الجسم، فيكون ذلك أعون على التأثير والاستمالة. 25 وقد يخطبون على رواحلهم، والعصا أو السلاح في يد الخطيب؛ إشارةً إلى أوضاع مخصوصة من أمن وحرب، فكانوا إذا خطبوا وقفوا وفي أيديهم العصا في السلم، والقوس في الحرب. 26 وذكر أن من المستحسن في الخطيب أن يكون جهوري الصوت، قليل التلفت، نظيف البزة، وأن يخطب قائمًا على نشر من الأرض، أو على راحلته، وأن يحتجز عمامته، ويكمل هذه الخصال شرف الأصل وصدق اللهجة. 27
كان من أشهر الخطباء الجاهليين قس بن ساعدة الأيادي وسحبان بن وائل الباهلي، وكان سحبان مضرب المثل في فصاحته وخطابته، يقال: أخطب من سحبان. ويقال: إنه كان إذا خطب يسيل عرقًا، ولا يعيد كلمةً، ولا يتوقف، ولا يقعد حتى ينتهي من كلامه. ومن خطباء تميم المشهورين: ضمرة بن ضمرة، وأكثم بن صيفي، وعمرو بن الأهتم المنقري، وقيس بن عاصم. 28 ومن الخطباء المشهورين حاجب بن زرارة، والحارث بن ظالم، وقيس بن مسعود، وخالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل. 29
كانت الخطب الجاهلية فصيحة بليغة مرتبة مبينة من غير تمطيط ولا تقعير، ولم تكن ألفاظا مبتذلة ملففة. وكان أسلوب الخطبة رائع اللفظ، خلاب العبارة، واضح المنهج، قصير السجع، كثير الأمثال، وهم إلى قصارها أميل لتكون أعلق بالصدور وأذيع. 30 نرى هذه الأوصاف في خطبة هاشم بن عبد مناف التي حثّ قريشًا فيها على إكرام زُوار بيت اللّٰه الحرام. فذكروا أن هاشم بن عبد مناف كان يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الحجة، فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيخطب قريشًا، فيقول:
يا معشر قريش، أنتم سادة العرب أنسابا، وأنتم أقرب العرب بالعرب أرحاما، يا معشر قريش، إنكم جيران بيت اللّٰه، أكرمكم اللّٰه تعالى بولاية بيته وخصكم بجواره دون بني إسماعيل، حفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره فأكرموا ضيفه وزوار بيته، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح وقد أرحضوا وثفلوا وقملوا وأرملوا، فاقروهم وأعينوهم، ولو كان لي مال يحمل ذلك كله كفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم تقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فواضعه، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت اللّٰه ومعونتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما ولم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ غصبا. 31
وكذلك من الخطب التي تحرض على القتال خطبة هانئ بن قبيصة في يوم ذي قار، يحرض فيها قومه بكرًا على القتال، فقال:
یا معشر بکر، هالك معذور خیر من ناج فرور، إن الحذر لا ینجي من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنیة، استقبال الموت خیر من استدباره، الطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور، یا آل بکر، قاتلوا فما للمنایا من بد. 32
الأمثال هي الجمل المستنبطة من تجارب القوم بكل إيجاز واختصار. قيل: هي جمل رصينة جمعت فيها تجارب الأمة، واجتمع فيها إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه. 33 فالمثل جملة منقطعة من القول أو مرسلة بذاتها، تنقل عمن وردت فيه إلى مشابهه بدون تغيير. 34 وسامعه يفهم من جملة قصيرة وقعة طويلة، والأمثال من أكثر المأثور من النثر الجاهلي. 35 ولا بد للأمثال من أصل تكون قد جاءت بسببه، وقد يكون ذلك الأصل حقيقيًا، وقد يكون فرضيًا، وذلك إن قيل عن حيوان أو نبات أو جماد، وتسمى أمثال النوع الأول حقيقية، والأخرى فرضية. 36
وأكثر ما توضع الأمثال الفرضية في الأيام التي يكثر فيها الجور والاستبداد من قبل الملوك الجبابرة، والتضييق على الهداة والدعاة، فيضطر أرباب الفكر والنظر إلى أغراضهم مع الأمن على حياتهم، ويخفون أنفسهم من الملوك فيقولونها على لسان عن الحيوان، وهي طريقة فريدة لإبلاغ رسالتهم إلى المجتمع العام وإخفائهم من الظلم والعدوان.
كانت الأمثال العربية السائرة في الجاهلية رائعة رائقة تجدر بالذكر والحفظ، إلا أننا نقدم بعضها نموذجًا لكلها في الفصاحة والبلاغة؛ ليتيسر معرفة مزياتها الكامنة فيها:
الأول: إذا سَلمت الجلة فالنيبُ هدرٌ، أي: إذا سلم ما ينتفع به هان ما لاينتفع به.
الثاني: تجشّأ لقمان من غير شِبَع، يضرب لمن يدعي ما ليس يملك.
الثالث: ربَّ كلمة تقول لصاحبها دعني، يضرب في النهي عن الإكثار مخافة الإهجار.
الرابع: أسَرْ حسوًا في ارتغاء، يضرب لمن يريك أنه يعينك وهو يجر النفع إلى نفسه، وأصله أن الرجل يؤتى باللبن فيظهر أنه يريد الرغوة خاصة فيشربها وهو في ذلك ينال من اللبن.الخامس: إذا كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً، يضرب للمدل بنفسه إذا مني بمن هو أدنى منه.
السادس:إنك لا تجني من الشوك العنب، أي: لا تجد عند ذي المنبت السوء جميلًا.
السابع: ذكرني فوك حمارَي أهلي، أصله أن رجلًا خرج يطلب حمارين ضلا له، فرأى امرأةً فأعجبته، فنسي الحمارين، فلما أسفرت عن وجهها رأى فمها قبيحًا فقال هذا المثل.الثامن: رمتني بدائها وانسلَّتْ، يضرب لمن يعير الآخر بما يعير هو به.
التاسع: أوسعتهم سبّاً وأودَوْا بالإبل، أصله أن رجلا أغير على إبله فأُخذت، فلما توارى المغيرون بها صعد أكمة وجعل يسبهم، ثم رجع إلى قومه فسألوه عن إبله، فقال هذا المثل.العاشر: أَحَشفاً وسوء كيلةٍ، يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين.
الحادي عشر: قد يحمل العَير من ذعر على الأسد، يضرب لمن يأخذه الدهش والروع فحمله على ما ليس من طبعه.
الثاني عشر: قبل الرَّمي يُراش السهم، يضرب للاستعداد للأمر قبل نزوله. 37
هذه نماذج من الأمثال التي تقولها العرب في عهد الجاهلية حينًا فحينًا، وسامعها يتنبه لما خفي فيها من المعاني والمفاهيم والأسرار، وما زال بعضها يضرب في مواقعها.
الحكم نوع من النثر الفني، كان شائعا في الجاهلية، وهي في الحقيقة أقوال الحكماء والعقلاء، يعبر عنها في العرف بالأقوال الذهبية الحكيمة، والحكمة قول رائع رائق خلاب يتضمن حكما صحيحا مسلما به، تدل - بناء على مرور التجارب وتحمل المتاعب- على أمر لا ينكره أحد، وكان من أشهرهم في الحكم أكثم بن صيفي وعامر بن ظرب العدواني، بينما ابنة عامر بن ظرب وهند بنت خس أيضًا من النساء اللواتي أثرت عنهن الحكم في كتب التاريخ، وننقل هنا بعض أقوال العرب الحكيمة:
أكثم بن صيفي التميمي كان من العقلاء الحكماء عند العرب، واشتهرت له عشرات الأقوال المليئة بالحكمة، ومنها:
الأول: ويل للشجي من الخلي.
الثاني: لم يذهب من مالك ما وعظك.
الثالث: رُبَّ عجلة تهب ريثا.
الرابع: ادرعوا الليل فإنه أخفى للويل.
الخامس: إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد.
السادس: ليس من العدل سرعة العذل.
السابع: لا تطمع في كل ما تسمع.
الثامن: رب قول أنقذ من صول.
التاسع: حافظ على الصديق ولو في الحريق. 38
كان من حكماء العرب عامر بن ظرب، وله أقوال حكيمة رائعة سائرة على ألسنة الناس. نذكر منها قولين فيما يلي:
الأول: رب زارع لنفسه حاصد سواه.
الثاني: من طلب شيئا وجده، وإن لم يجده أوشك أن يقع قريبا منه. 39
أما الحكماء الآخرون فكانوا كثيرين في المجتمع الجاهلي، وقد رويت أقوالهم الحكيمة في أوراق التاريخ، ومنها:
الأول: رضا الناس غاية لا تدرك. 40
الثاني: كلْم اللسان أنكى من كلْم السنان.
الثالث: رب ملوم لا ذنب له.
الرابع: اترك الشر يتركك.
الخامس: العتاب قبل العقاب.
السادس: من سلك الجدد أمن العثار.
السابع: أول الحزم المشورة.
الثامن: من ضاق صدره اتسع لسانه.
التاسع: يدك منك وإن كانت شلاء. 41
الوصية بمعنى النصح والإرشاد والتوجيه، وهي قول بليغ مؤثر، يتضمن حثًا على سلوك طيب نافع؛ حبًا فيمن توجه إليه الوصية، ورغبةً في رفعة شأنه وجلب الخير له، وعادةً تكون من أولياء الأمور وبخاصة الأب والأم لأبنائهما عند حلول الشدائد، أو حدوث الأزمات، أو الإحساس بدنو الفراق، وهي نتيجة الخبرة الطويلة والملاحظة الدقيقة، والعقل الواعي والتفكير السليم، ويدفع إليها المودة الصادقة، والحب العميق. 42 والوصية من أهم أجزاء الأدب الجاهلي، يهتم بها العرب منذ أزمان قديمة.
أوصى عامر بن ظرب قومه بوصية تالية:
يا معشر عدوان، لا تشمتوا بالذلة، ولا تفرحوا بالعزة، فبكل عيش يعيش الفقير مع الغني، ومن ير يومًا ير به، وأعدوا لكل أمر جوابه، إن مع السفاهة الندم، والعقوبة نكال، وفيها ذمامة، ولليد العليا العاقبة، وإذا شئت وجدت مثلك، إن عليك كما أن لك، وللكثرة الرعب، وللصبر الغلبة، ومن طلب شيئًا وجده، وإن لم يجده أوشك أن يقع قريبًا منه. 43
أوصى زهير بن جناب الكلبي بنيه فقال:
يا بني، قد كبرت سني، وبلغت حرسا من دهري، فأحكمتني التجارب، والأمور تجربة واختبار، فاحفظوا عني ما أقول ووعوه، إياكم والخور عند المصائب، والتواكل عند النوائب؛ فإن ذلك راعية للفهم، وشماتة للعدو، وسوء ظن بالرب، وإياكم أن تكونو بالأحداث مغترين، ولها آمنين، ومنها ساخرين؛ فإنه ما سخر قوم قط إلا ابتلوا، ولكن توقعوها، فإنما الإنسان في الدنيا غرض تعاوره الرماة، فمقصر دونه، ومجاوز لموضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لا بد أنه مصيبه. 44
سجع الكهنة هو كلامهم المزوّق المتكلف. 45 وقيل: كلامهم غير المفهوم المزوق لاستمالة السامعين . 46 أما تأويل شق لرؤيا الملك فمعروف عند العرب، وكان في عهد كسرى أنو شيروان، فعبر الرؤيا بكلام مسجع فقال: أحلف بما بین الحرتین من إنسان، لینزلن أرضکم السودان، ولیغلبن على كل طفلة البنان، ولیملکن إلى ما بین أبین ونجران. 47 وروي عن سطيح الكاهن مثل هذا التأويل، فعبر أيضًا رؤيا بكلام مسجع، قال: أحلف بما بین الحرتین من حنش، لیهبطن أرضکم الحبش، ولیملکن ما بین أبین إلى الجرش. 48
يتبين من نماذج نثرهم أن الكهان كانوا يستعملون السجع المتكلف الغامض، وفي جمل قصيرة، وغير واضحة المعنى، لكي تتحير الأذهان في فهم المقصود منها. 49 وذلك لأنهم طائفة تزعم أنها تطلع على الغيب، وتعرف ما يأتي به من الغد بما يلقي إليها توابعها من الجن. 50 فينبئون بكلامهم المسجع المقفع كأنه ألقي إليهم من قبل الجن.
لقد كان النثر العربي رائعًا معجبًا، جذابًا أنيقًا، مصورًا للطباع العربية والقرائح البدوية، ولما كانت العرب أمةً أميةً، لم يدونوا نثرهم الفني وأدبهم العربي تدوينًا منسقًا إلا ما تناقل منه صدرًا عن صدر، ثم بعد بزوغ فجر الإسلام نقلوه من الصدور إلى السطور بشكل مكتوب؛ ليحفظ من الدسائس والهلاك، ولمبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم دور هام في إبقاء تقاليد الجاهلية المثبتة على حالها، كما أن الإسلام بعث في الأدب العربي روح البقاء والقرار، فقد دون العرب المسلمون تراثهم الجاهلي كنزًا عظيمًا يستفيد منه الأدباء والعلماء.