الخط العربي أول خط برز في حيز الوجود بعد أن هبط آدم عليه السلام إلى الدنيا، ثم تطور مرحلة إثر مرحلة على مدى بعثات الأنبياء الآخرين، ومع مرور الزمان حدثت فيه تغيرات طفيفة حتى تشكلت شكلا بأبجدية موجودة.
إن آدم عليه السلام قد سكن الجنة، وهو أول من هبط إلى الأرض منها، فكان هو أول من اخترع الخط العربي. وقد روي عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم قال: (( أعطي آدم الخط )). 1 وقد كان ينطق باللغة العربية، لقول النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( لسان أهل الجنة عربي )). 2 أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، 3 وفي المعجم الكبير، 4 والحاكم في المستدرك على الصحيحين، 5 وأبو القاسم تمام البجلي في الفوائد، 6 والبيهقي في شعب الإيمان. 7
لقد نطق آدم عليه السلام بالعربية وكتب فيها عندما بعث إلى الأرض. روي عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم قال: (( أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام )). 8 ويؤيده قول اللّٰه عز وجل: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 59 يقول ابن عباس رضي اللّٰه عنهما في تفسير "ما لم يعلم" يعني علمه الخط بالقلم ما لم يعلمه قبل ذلك. 10 وقال أبو الليث السمرقندي وهو من أئمة القرن الرابع الهجري: الذي علّم بالقلم، يعني علّم الكتابة والخط بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، یعني: علّم آدم علیه السلام أسماء كل شيء، يعني: ألهمه. 11 ويذكر الإمام الماوردي: وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أراد آدم عليه السلام؛ لأنه أول من كتب، قاله كعب الأحبار. والثاني: إدريس عليه السلام، وهو أول من كتب، قاله الضحاك. والثالث: أنه أراد كل من كتب بالقلم؛ لأنه ما علم إلا بتعليم اللّٰه له. 12
وذكر ابن النديم: قال كعب: وأنا أبرأ إلى اللّٰه من قوله إن أول من وضع الكتابة العربية والفارسية وغيرها من الكتابات آدم علیه السلام، وضع ذلك قبل موته بثلاث مئة سنة في الطين وطبخه. 13 أما قوله: وأنا أبرأ إلى اللّٰه من قوله: إن كان جرحا وقدحا عليه فلا عبرة له؛ فقد تمسك به في هذا الباب كثير من أئمة التفسير، منهم الإمام أبو المظفر السمعاني، 14 وابن عادل الدمشقي وغيرهما. 15 أما ابن النديم فلم يكن من أصحاب التفسير والحديث، فلا يقبل جرحه.
كان آدم عليه السلام مأمورًا بتليغ الأحكام والوصايا التي أوحيت إليه، وقد بيّنها بلسانه وكتبها بقلمه، وإشارةً إلى ذلك نزل في أول الوحي ذكر القلم بعد القراءة، فكان آدم عليه السلام مع ما كان اللّٰه عز وجل قد أعطاه من ملك الأرض والسلطان فيها قد نبأه، وجعله رسولًا إلى ولده، وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفةً كتبها آدم عليه السلام بخطه، علمه إياها جبرئيل عليه السلام. 16 وقيل: كان مما أنزلَ اللّٰهُ تعالى على آدم عليه السلام تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة. 17
روي في هذا الباب أقوال أخرى أيضا، منها: أن أول من ابتدع الكتابة من بني آدم شيث عليه السلام. 18 ومنها أن أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام. 19 ومنها: أن أول من خط بالقلم من العرب هود عليه السلام، وإنه كان يكتب به. 20 ومنها أن أول من خط بالقلم إسماعيل عليه السلام. 21
اعلم أن هذه الأقوال لا تتعارض ولا تتنافي بعضها بعضًا؛ فإنه من الممكن أن يكون الخط العربي قد أُلهم آدم عليه السلام وأُلهم الأنبياء الآخرين أيضًا، ومنهم شيث وإدريس وهود وإسماعيل عليهم السلام. ويمكن أن يكون الخط العربي قد حدثت فيه تغيرات طفيفة في عصور مختلفة مثل التغيرات التي حدثت في الشرائع السماوية السابقة، فكل نبي منهم وضع خطا وكتب به. ويحتمل أن يكون آدم عليه السلام أول من أُلهم الخط العربي، ثم انتقل منه إلى ابنه شيث عليه السلام، ومنه إلى إدريس عليه السلام، ومنه إلى هود عليه السلام، ومنه إلى إسماعيل عليه السلام.
أما البحوث والدراسات التي قدمها المستشرقون في العصر الراهن فهي أفكار زائغة منحازة أكثر من كونها بحوثًا علمية محققة، وقد استنبطوا النتائج الكامنة الضالة بعد أن مسخوا الحقائق التاريخية والشواهد القوية. يقول ويرستاغ: إن تاريخ الخط العربي قديم جدًا، حيث أخذ منه الخط البروتوسمايتك. 22 لكن على عكس ذلك تشير الموسوعة البريطانية (موسوعة بريتانيكا) إلى أن الخط العربي مأخوذ من الخط الآرامي أو خط الأرامك (Aramic) بتوسط الخط النبطي، بالإضافة إلى أنه خط برز إلى حيز الوجود في القرن الرابع الميلادي. 23 وهو موقف بيترائس، حيث ذكر أنه مأخوذ من خط الأرامك. 24
وليست هذه إلا مكابرة ومكايدة؛ فإنهم يصرون على أنه خط مأخوذ من خط آخر، ولا يقبلون الخط العربي كمصدر ومأخذ للخطوط الأخرى، رغم تصريح ويرستاغ بأنه خط نشأ قبل التقويم الميلادي بثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين سنة. ويظهر من دراساتهم وتحقيقاتهم أنهم على معرفة تامة بقدم الخط العربي، لكنهم يشككون فيه ويلبسونه على الناس، ولا يريدون بذلك إلا تقليل أهمية الخط العربي وعظمة القرآن المنزل به، والجداول الآتية تدل على أن الخط العربي مصدر ومأخذ للخطوط الأخرى منذ عشرات القرون.
الجدول 25
يدل هذا الجدول على أن الخط المسند السبئي مأخوذ من الخط العربي القديم، ثم نشأ بعده الخط الفنيقي ثم الآرامي ثم اليوناني، فيستبعد أن يقال: إن الخط العربي مأخوذ من الخط الآرامي أو النبطي.
لاحظ الدارسون أن العرب استخدموا قبل الإسلام نوعين من الخط:
الأول: المسند، وهو القديم الواسع الانتشار في جنوب الجزيرة العربية وبعض أنحائها الشمالية، وكان قد زال من الاستخدام في الفترة القريبة من ظهور الإسلام.
الثاني: الخط الذي كان معروفا في الحجاز والمناطق الواقعة في شمال الجزيرة العربية وشمالها الشرقي، وهو الخط الذي استعمل في تدوين القرآن الكريم، وفي شؤون الدولة الإسلامية بعد ذلك، والخط العربي المستعمل في زماننا هو امتداد لذلك الخط. 26
الخط العربي الجنوبي كان خطا متداولا في البلاد العربية الجنوبية، ونسميه اليوم بالمسند، تكتب به اللغة العربية السبئية والقتبانية، ولغة حضرموت واللغات المنطوقة في جنوب الجزيرة العربية. قال ابن منظور: والمسند: خط لحمير مخالف لخطنا هذا، كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. 27 وقال ابن خلدون: المسند كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر، كما يخالف لغتهم. 28
خصائص المسند
يتميز المسند (الخط العربي الجنوبي القديم) بالخصائص الآتية:
الأولى: تتكون أبجدية المسند في الأصل من تسع وعشرين حرفا، كالأبجدية العربية الشمالية مع زيادة حرفة واحد ينطق بين السين والشين.
الثانية: المسند خال من أية علامة للحركات أو حروف المد.
الثالثة: تكتب حروف المسند منفصلة، ويفصل بين الكلمة والأخرى بخط عمودي، ويندر وجود الفاصل في النقوش الشمالية المتحدرة عن المسند.
الرابعة: تبدأ الكتابة بالمسند من اليمين في العادة، وتنتهي في اليسار، وقد يكتب النقش بشكل متصل من اليمين إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين، وهكذا.
الخامسة: يكتب الحرف المشدد مرتين غالبًا. 29
تلاحظ كل هذه الخصائص في الصور التالية:
الصورة 30
الصورة 31
كان الخط العربي المتداول في شمال العرب قيد الاستخدام من القرن الثامن قبل الميلاد. 32 ولا شك أنه كان معروفا في بلاد العرب الشمالية منذ قرنين أو ثلاثة قرون قبل الإسلام، لكن النقوش المعروفة منه من تلك الفترة قليلة، على عكس المسند الذي وجد الباحثون مئات النصوص منه. 33
يتميز الخط العربي الشمالي بالخصائص الآتية:
الأولى: تجرده من علامات الحركات.
الثانية: تشابه عدد من الحروف في الصورة، وعدم وجود نقاط تميزها.
الثالثة: حذف حروف المد الثلاثة في كثير من الكلمات، خاصة الألف.
الرابعة: رسم الألف ياء في كثير من الكلمات.
الخامسة: رسم تاء التأنيث هاء في مواضع، وتاء في مواضع أخرى.
السادسة: توزع حروف الكلمة الواحدة في آخر السطر وأول السطر التالي في حالات كثيرة.
السابعة: زيادة الواو في آخر أسماء الأعلام كما في كلمة عمرو. 34
ومن الخط المسند اشتق الخط اللحياني، والقلم الثمودي، والقلم الصفوي؛ وذلك لأن الخط المسند متقدم في الوجود على هذه الخطوط والأقلام، فلا يمكن أن يكون قد أخذ منها. ثم إن المناطق التي وجدت فيها الكتابات اللحيانية والكتابات الثمودية، كانت في حكم المعينيين والسبئيين، بدليل عثور العلماء على كتابات معينية فيها. وهذه الكتابات أقدم عهدا من الكتابات اللحيانية والثمودية، ولذلك ذهب الباحثون في اللحيانيات والثموديات إلى اشتقاق خطها من الخط المسند. 35
إن الخط الثمودي مثل الخط المسند والخط اللحياني والخط الصفوي، خال من الشكل ومن التشديد ومن الإشباع ومن علامات للحركات تكتب مع الحروف في صلب الكلمة. ولهذا يلاقي قارئه من الصعوبات ما يلاقيه قارئ القلم المسند والقلم اللحياني. 36
بالإضافة إلى ذلك، كانت لدى العرب القدماء خطوط وأقلام متداولة، منها: الخط الداداني، والدماتي، والتائماني، والحسماني، والسافيائي، والثمودي، والصفيري وأخرى كثيرة، وكلها مأخوذة ومشتقة من القلم المسند أو الخط العربي الشمالي. 37 وها هي ملامح نقوش وصور بعض الخطوط والأقلام العربية القديمة.
كل هذه الصور مأخوذة من موسوعة كمبريدج للغات العالمية القديمة. 38
إن اللغة العربية أقدم اللغات، وخطها أقدم الخطوط، ومنه اشتقت الخطوط الأخرى، وهو المصدر والمأخذ للجميع، بالإضافة إلى ذلك فإن الخط العربي قد وقع فيه تغيير يسير لاختلاف الزمان والمكان، ثم اكتسى الحلة العربية المبينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور تطورا كبيرا في العصور التالية حتى جاء الحجاج بن يوسف، فأمر اللغويين بزيادة التشكيل والإعراب والنقاط فيه، وقد تزين بهذه الحلة الجميلة المرصعة المصدران الأساسيان للشرع الإسلامي، القرآن والسنة.