لا ننكر أن أهل الجاهلية كانت فيهم دنايا ورذائل وأمور ينكرها العقل السليم، ويأباها الوجدان، ولكن كانت فيهم من الأخلاق الفاضلة المحمودة ما يروع الإنسان، ويفضي به إلى الدهشة والعجب. فمن تلك الخصائص والأخلاق العالية الجود والكرم، والوفاء بالعهد، وعزة النفس، والمضي في العزائم، والحلم، والأناة، والتؤدة، ومنها السذاجة البدوية. وهذه الخصائص الثمينة -مع ما كان لجزيرة العرب من الموقع الجغرافي بالنسبة إلى العالم- كانت سببا في اختيارهم لحمل عبء الرسالة العامة، وقيادة الأمة الإنسانية والمجتمع البشري؛ لأن هذه الخصائص والأخلاق وإن كان بعضها يفضي إلى الشر، ويجلب الحوادث المؤلمة، إلا أنها كانت في نفسها أخلاقا ثمينة، تدر المنافع العامة للمجتمع البشري بعد شيء من الإصلاح، وهذا الذي فعله الإسلام. 1
الوفاء خلق متأصل بالعرب، والإسلام وجهه الوجهة السليمة، فغلظ على من آوى محدثا مهما كانت منزلته وقرابته. قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم فيما رواه علي رضي اللّٰه عنه: (( لعن اللّٰه من آوى محدثًا )). 2 ومما يدل على وفاء العرب أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب، وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث في حرب البسوس، وقال: "بؤ بشسع نعل كليب". فأسر الحارث مهلهلا وهو لا يعرفه. فقال: دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك. فقال له: عليك بالعهد بذلك إن دللتك عليه. قال: نعم. قال: فأنا هو. فجز ناصيته وتركه، وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار. 3
ومن ذلك أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته، فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان فأبى، فسير إليه كسرى جيشا لقتاله. فجمع هانئ قومه آل بكر، وخطب فيهم. فقال: يا معشر بكر، هالك معذور خير من ناج مفرور، إن الحذر لاينجي من قدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور. يا آل بكر، قاتلوا فما للمنايا من بد، واستطاع بنو بكر أن يهزموا الفرس في موقعة ذي قار، بسبب هذا الرجل الذي احتقر حياة الصغار والمهانة، ولم يبال بالموت في سبيل الوفاء بالعهود. 4
كان من عادات العرب في الجاهلية أنهم يقلون من الأكل، ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع. قال الشنفري:
إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل 5
ويقال في المثل "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها" أي: بإجارتها نفسها للإرضاع بثدييها، أي: صبر الحر على الجوع أيسر عليها من تحمل مذلة إجارة النفس. 6 كانوا يقدرون على تحمل المكاره والصبر على الشدائد، وربما اكتسبوا ذلك من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حر الظهيرة، ولم يتأثروا بالحر ولا بالبرد، ولا وعرة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ، ولما دخلوا الإسلام ضربوا أمثلةً رائعةً في الصبر والتحمل. 7 فقد كان الواحد منهم يسير الأيام مكتفيًا بتمرات يقيم بها صلبه، ورشفات من ماء يرطب بها كبده، وقلة تكاليف الحياة جعلتهم يكتفون بالقليل. 8
كان من عاداتهم في الجاهلية أنهم ينازلون أقرانهم وخصومهم، حتى إذا تمكنوا منهم عفوا عنهم وتركوهم، ويأبون أن يجهزوا على الجرحى، وكانوا يرعون حقوق الجيرة، ولا سيما رعاية النساء والمحافظة على العرض. قال عنترة في ذلك:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
وكانوا إذا استجار أحد الناس بهم أجاروه، وربما ضحوا بالنفس والولد والمال في سبيل ذلك، فكانت هذه الفضائل والأخلاق الحميدة رصيدًا ضخمًا في نفوس العرب، ونماها الإسلام وقواها، ووجّهها وجهة الخير والحق. 9
كان العربي بفطرته يعشق الحرية، يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلا، أو يمس في شرفه وعرضه، ولو كلفه ذلك حياته، فقد كانوا يأنفون من الذل، ويأبون الضيم، والاستصغار والاحتقار. وإليكم مثال على ذلك:
جلس عمرو بن هند ملك الحيرة إلى ندمائه وسألهم: هل تعلمون أحدًا من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك. فدعا الملك عمرا بن كلثوم لزيارته ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي يجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك. فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم، واذلاه! يا لتغلب. فسمع ابنها فاشتد به الغضب، فرأى سيفا للملك معلقا بالرواق، فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، وانتهبوا ما في الرواق. 10 ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلا:
بأي مشيئة عمرو بن هند
نكون لقيلكم فيها قطينا
بأي مشيئة عمرو بن هند
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويدا
متى كنا لأمك مقتوينا
إذا ما الملك سام الناس خسفا
أبينا أن نقر الذل فينا 11
كان من دأب العرب في الجاهلية أنه إذا عزم رجالهم وقوادهم أن يفعلوا شيئًا فلن يحول بينهم وبين ما يبتغون شيء جل أو تفاقم، وخاصةً إذا كان ما يريدونه ذا عز وشرف فلا يبالون بحياتهم في إنجازه، ويلتزمون قرارا أصدره أسيادهم في أمور اجتماعية أو سياسية، ويؤثرون الموت إذا ما وجدوا حرية وعزما مصمما وحمية وعصبية. قال شاعرهم:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل ما أتقدما 12
وهذا يدل على أن العرب في الجاهلية كانوا ينجزون ما ييتغونه، ولا يتخلفون عن شيء عزموا على فعله.
وللشرف مقام كبير عند العرب. والشرف في العرف الجاهلي، هو الحسب بالآباء. والشرف والمجد عندهم لا يكونا إلا بالآباء. أما الحسب والكرم فيكونان، وإن لم يكن له آباء لهم شرف. ولهذا حرصوا على استمرار الشرف في الأسر الشريفة، وعلى إمدادها بالحيوية والنشاط حتى يبقى الشرف متألقا لامعا فيها. ومن ذلك الزواج المكافئ والفعال الحميدة والمحافظة على سجايا الأسرة الطبية، والأعراف المثالية، والتمسك بالنسب وعدم تلويثه بدم من هو دونهم في الشرف، ورعاية ذلك النسب وحفظه، ليكون نسب كل شريف بينا واضحا ظاهرا للناس. 13 هذا أكثم بن صيفي - من حكماء العرب ومعمريهم، -قال له كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى- ينصح العرب بقوله: لا يفلتنكم جمال النساء عن صراحة النسب؛ فإن المناكح الكريمة مدرجة الشرف. 14 وقال أبو الأسود الدؤلي لبنيه: يا بني، أحسنت إليكم صغارا وكبارا وقبل أن تولدوا. قالوا: يا أبانا، قد علمنا إحسانك صغارا وكبارا، أفرأيت قبل أن نولد؟ قال: قد طلبت لكم موضعا في النساء لكي لا تعيروا. 15 وأنشد الرياشي:
فأول إحساني إليكم تخيري
لماجدة الأعراق باد عفافها 16
الوعد من المقدسات عند العرب سواءً كان على المستوى الفردي أو على الصعيد القبلي، وكانوا يعتدون بالوفاء اعتدادا عظيمًا، ويرونه قيمةً ثمينةً وشرفا عاليا. والوفاء به من القيم الأخلاقية عند العرب في الجاهلية، وتممه الإسلام وأكده، ويدفعون دماءهم ويضحون بأبنائهم وإخوانهم وفاءً بعهدهم. ومن جراء ذلك كانوا أصدق القول، وأطهر القلب، يحترزون عن الكذب ويحقرونه، تتداول بينهم صداقة تامة كما تقوم عدواة ظاهرة. وفي هذه الطباع يتفاخرون ويتباهون.
فمما يدل على الوفاء بالوعد قضية الطائي وشريك نديم النعمان بن المنذر، وتلخيص معناها أن النعمان كان قد جعل له يومين؛ يوم بؤس، من صادفه فيه قتله وأرداه، ويوم نعيم، من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه. وكان هذا الطائي قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره، فأخرجته الفاقة من محل استقراره ليرتاد شيئا لصبيته وصغاره، فبينما هو كذلك إذ صادفه النعمان في يوم بؤسه، فلما رآه الطائي علم أنه مقتول، وأن دمه مطلول. فقال: حيا اللّٰه الملك، إن لي صبية صغارا وأهلا جياعا، وقد أرقت ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم، وقد أقدمني سوء الحظ على الملك في هذا اليوم العبوس، وقد قربت من مقر الصبية والأهل، وهم على شفا تلف من الطوى، ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصل إليهم هذا القوت وأوصي بهم أهل المروءة من الحي؛ لئلا يهلكوا ضياعا، ثم أعود إلى الملك وأسلم نفسي لنفاذ أمره.
فلما سمع النعمان صورة مقاله، وفهم حقيقة حاله، ورأى تلهفه على ضياع أطفاله، رق له ورثى لحاله، غير أنه قال له: لا آذن لك حتى يضمنك رجل معنا، فإن لم ترجع قتلناه، وكان شريك بن عدي بن شرحبيل نديم النعمان معه، فالتفت الطائي إلى شريك وقال له:
يا شريك بن عدي
ما من الموت انهزام
من لأطفال ضعاف
عدموا طعم الطعام
بين جوع وانتظار
وافتقار وسقام
يا أخا كل كريم
أنت من قوم كرام
يا أخا النعمان جد لي
بضمان والتزام
ولك اللّٰه بأني
راجع قبل الظلام
فقال شريك بن عدي: أصلح اللّٰه الملك، علي ضمانه، فمر الطائي مسرعا، وصار النعمان يقول لشريك: إن صدر النهار قد ولى ولم يرجع. وشريك يقول: ليس للملك علي سبيل حتى يأتي المساء. فلما قرب المساء قال النعمان لشريك: قد جاء وقتك قم فتأهب للقتل. فقال شريك: هذا شخص قد لاح مقبلا، وأرجو أن يكون الطائي، فإن لم يكن فأمر الملك ممتثل. فبينما هم كذلك وإذا بالطائي قد اشتد عدوه في سيره مسرعا حتى وصل. فقال: خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي. ثم وقف قائما وقال: أيها الملك، مر بأمرك. فأطرق النعمان ثم رفع رأسه، وقال: واللّٰه ما رأيت أعجب منكما، أما أنت يا طائي، فما تركت لأحد في الوفاء مقاما يقوم فيه، ولا ذكرا يفتخر به. وأما أنت يا شريك، فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء، فلا أكون أنا ألأم الثلاثة، ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس، ونقضت عادتي كرامة لوفاء الطائي وكرم شريك. 17
وهذا حذافة بن غانم، روي أن ركبًا من جذام فقدوا رجلا منهم غالته بيوت مكة، فلقوا حذافة فأخذوه فربطوه ثم انطلقوا به، فتلقاهم عبد المطلب مقبلا من الطائف معه ابنه أبو لهب يقوده وقد ذهب بصره، فلما نظر إليه حذافة هتف به. فقال عبد المطلب لأبي لهب: ويلك ما هذا؟ قال: هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب. قال: الحقهم واسألهم ما شأنهم. فلحقهم فأخبروه الخبر، فرجع إلى عبد المطلب. فقال ما معك؟ قال: واللّٰه ما معي شيء. قال: الحقهم لا أم لك، وأعطهم ما بيدك وأطلق الرجل، فلحقهم أبو لهب، فقال: قد عرفتم تجارتي ومالي، وأنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا وعشرا من الإبل وفرسا، وهذا ردائي رهنا بذلك، فقبلوه منه وأطلقوا حذافة فأقبل به. فلما سمع عبد المطلب صوت أبي لهب قال: وأبي إنك لعاص؟ ارجع لا أم لك. قال: يا أبتاه، هذا الرجل معي، فناداه يا حذافة، أسمعني صوتك. فقال: ها أنا ذا بأبي أنت يا ساقي الحجيج، أردفني، فأردفه خلفه حتى دخل مكة، فقال حذافة قصيدة ومطلعها:
بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه
يضيء ظلام الليل كالقمر البدر18
وهي قصيدة جيدة مدح فيها حذافة العرب وخاصة مدح قريشًا.
إن الوفاء بالوعد عند العرب خلق كريم ووصف جليل، وكان لمضر صيت في الوفاء، انظر إلى قصة حاجب بن زرارة إذ رهن قوسه عند كسرى، فإنها تدلك على ما كانوا عليه من الصدق والوفاء ومراعاة العهود. روي أن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم كان دعا على مضر، وقال: (( اللّٰهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف )). 19 فتوالت الجدوبة عليهم سبع سنيين، فلما رأى حاجب الجهد على قومه جمع بني فزارة، وقال: إني أزمعت على أنيآتي الملك، يعني كسرى فأطلب أن يأذن لقومنا، فيكونوا تحت هذا البحر حتى يحيوا. فقالوا: رشدت، فافعل غير أنا نخاف عليك بكر بن وائل. فقال: ما منهم وجه إلا ولي عنده يد إلا ابن الطويلة التيمي وسأداويه. ثم ارتحل فلم يزل ينتقل في الإتحاف والبر من الناس حتى انتهى إلى الماء الذي عليه ابن الطويلة. فنزل ليلًا، فلما أضاء الفجر دعا بنطع، ثم أمر فصب عليه التمر، ثم نادى: حي على الغداء، فنظر ابن الطويلة فإذا هو بحاجب. فقال لأهل المجلس: أجيبوه. وأهدى إليه جزرا ثم ارتحل، فلما بلغ كسرى شكا إليه الجهد في أموالهم وأنفسهم، وطلب أن يأذن لهم فيكونوا في حد بلاده. فقال: أنتم معشر العرب غدر، فإذا أذنت لهم عاثوا في الرعية وأغاروا. قال حاجب: إني ضامن للملك أن لا يفعلوا. قال: فمن لي بأن تفي أنت؟ قال: أرهنك قوسي، فلما جاء بها ضحك من حوله. فقال الملك: ما كان ليسلمها، اقبضوها منه، ثم جاءت مضر إلى النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بعد موت حاجب، فدعا لهم فخرج أصحابه إلى بلادهم، وارتحل عطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوسه أبيه. فقال: ما أنت بالذي وضعتها. قال: أجل، إنه هلك، وأنا ابنه وفي للملك. قال: ردوا عليه. وكساه حلة، فلما وفد إلى النبي صلى اللّٰه عليه وسلم أهداها إليه فلم يقبلها، فباعها من يهودي بأربعة آلاف درهم، فصار ذلك فخرًا ومنقبةً لحاجب وعشيرته. 20
وقال النعمان بن المنذر لكسرى في مناظرة جرت بينهما في شأن العرب: أما وفاء العرب فإن أحدهم يلحظ اللحظة، ويومئ الإيماء، فهي ولث وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودا من الأرض فيكون رهنا بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلًا استجار به، وعسى أن يكون نائيا عن داره فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله. 21
هي حكاية وفاء السموأل، كان من وفائه أن امرأ القيس لما أراد الخروج إلى قيصر استودع السموأل دروعا وأحيحة بن الجلاح أيضا دورعًا، فلما مات امرؤ القيس غزاه ملك من ملوك الشأم، فتحرز منه السموأل، فأخذ الملك ابنا له، وكان خارجا من الحصن، فصاح الملك بالسموأل، فأشرف عليه. فقال: هذا ابنك في يدي، وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي ومن عشيرتي، وأنا أحق بميراثه، فإن دفعت إلي الدروع وإلا ذبحت ابنك. فقال: أجّلني. فأجله، فجمع أهل بيته ونساءه، فشاورهم، فكل أشار عليه أن يدفع الدروع ويستنقذ ابنه، فلما أصبح أشرف عليه. وقال: ليس إلى دفع الدروع سبيل، فاصنع ما أنت صانع، فذبح الملك ابنه وهو مشرف ينظر إليه، ثم انصرف الملك بالخيبة، فوافى السموأل بالدروع الموسم فدفعها إلى ورثة امرئ القيس. وقال في ذلك:
وفيت بأدرع الكندي إني
إذا ما خان أقوام وفيت 22
كان العرب أوفياء أنوفا أعزاء، لايستسلمون لظلم ولا عدوان ولا تفتر هممهم العالية، كانوا على قمة سامية من الشجاعة والبسالة والعزم المصمم، يلتهبون غضبًا إن اعتراهم أمر يعارض طباعهم، وخاصةً إذا كان أمر فيه مهانة أو صغار، فيشهرون سيوفهم ويقاتلون ويخوضون في حروب دامية تستمر إلى مدة مديدة، ويفتخرون بموت لحقهم في هذه الحروب التي يحاربونها من أجل إنجاز ما عزموا عليه، وكان ذلك منقبةً ومفخرةً لهم، فإذا استهدفوا إنجاز أمر فلن يمنعه شيء ولا يحول بينهم وبين إنجازه إلا أن يضحوا بأرواحهم في سبيل ذلك.
هذه فضائل العرب وخصائلها التي أودعها اللّٰه تعالى في طباعهم الصحراوية وفطرتهم العربية، لكنهم كانوا محرومين من الهدى الإلهية والوحي الإلهي، فلم يتمكنوا من الوصول بها إلى أهداف أصلية ولا مقاصد حقيقية أساسية، ومن الواضح أن الشجاعة تعدو وتظلم دون الرشد السديد، والحروب الكثيرة لا تقضي على الفساد ولا تصلح المجتمع دونه، فليست هي بدونه إلا إبداء القوة البدنية وتسكين الظلم الشخصي. أما بلاغتهم اللسانية وفصاحتهم الكلامية التي لا يضارعهم فيها قوم من أقوام العالم لا يأمرون بها بالمعروف ولا ينهون بها عن المنكر، ولم يكن لهم وراء ذلك غرض أوفر إلا سمعتهم وإرساء دعائمهم على تمنكهم من القدرة الكلامية. فلما بعث الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم فيهم، وجّه كل مهاراتهم وقدراتهم ومآثرهم ومحاسنهم تجاه نشر الدين الحنيف وإعلاء كلمة اللّٰه العليا في أرجاء المعمورة، فاستخدمت في موقعها الجدير بها، ووصلت ثمراتها ونتائجها إلى أنحاء العالم في صورة تعاليم إسلامية.
كثير من العرب في العصر الراهن يمتلكون هذه الخصائل والفضائل؛ لكن بناءً على عدم توجيهها إلى الدين الإسلامي والتعاليم النبوية على صاحبها آلاف التحيات والتسليمات لا تحقق نتائج مثمرة، وبدلاً من أن تفيد الأمة الإسلامية، تستفيد بها الكفار ويضار بها المسلمون، فإن صرفت العرب مهاراتهم ومآثرهم في إعلاء كلمة الإسلام ونشره، وتطوير الأمة الإسلامية ورقيها، فلا يبعد أن تكون لها نتائج جيدة في العالم الإسلامي بل في العالم كله، وتكون كتلةً إسلاميةً تضمن الأمن والسلام في جميع العالم.