امرؤ القيس بن حجر الأمير الكندي، أشهر شعراء العرب الجاهليين وأبعدهم أثرًا. 1 كان من أهل نجد، من الطبقة الأولى. 2 بل كان رأسها. كان يسكن بأعمال دمشق، وقد ذكر مواضع من أعمالها في شعره. 3
ولد امرؤ القيس سنة خمسمائة وأربعين من الميلاد في قبيلة كندة. كان من بيت السيادة في كندة، وهي قبيلة يمنية كانت تنزل في غربي حضرموت، وهاجرت منها جماعة كبيرة إلى الشمال مع هجرات اليمنيين المعروفة، واستقرت جنوبي وادي الرمة الذي يمتد من شمالي المدينة إلى العراق. 4 لكن مع الأسف الشديد عاش حياته في الضلالة والغواية، بالرغم من أنه كان من الأشراف، ومن أسرة توارثت السيادة فيها كابراً عن كابر.
اختلف المؤرخون في اسمه، فقيل حندج. وقيل مليكة. وقيل عدي. 5 حندج بضم الحاء المهملة والدال وسكون النون وآخره جيم، وهو في اللغة، الرملة الطيبة. وقيل: كثيب من الرمل أصغر من النقا. 6 أما نسبه فهو ابن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن يعرب. 7 وقيل: معاوية بن الحارث بن يعرب، 8 بن ثور بن مرتع بن معاوية ابن كندة. 9 وكندة ثور الأكبر بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة ابن أدد الشاعر المقدم، 10 بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح النبي عليه السلام. 11
كان امرأ القيس رجلا عظيما، وشاعرا جليلا، ذا مكانة أرقى ومنزلة أسمى، ولذلك حوفظ على نسبه، ولم يكن من عادة العرب الاهتمام بالنسب لكل ساقط هابط، فالحفاظ على نسبه دليل بين على أنه كان شاعرا ماهرا، وكان له شأن في المجتمع الجاهلي.
لقب امرؤ القيس بثلاثة ألقاب، وكني بثلاث كنى. أما ألقابه فمنها امرؤ القيس، لقّب به لجماله؛ وذلك أن الناس قيسوا إليه في زمانه، فكان أفضلهم. 12 وهو بمنزلة عبد اللّٰه وعبد الرحمن، وفي إعرابه أربعة أوجه، يقال: قال امرؤ القيس بضم الراء والهمزة، وقال امرأ القيس بفتح الراء وضم الهمزة، وقال مُرءُ القيس بضم الميم والهمزة بغير ألف، ويقال: مَرء القيس بفتح الميم وضم الهمزة. 13 وله ألقاب أخرى، لقب بالملك الضليل وبذي القروح أيضًا، وإنما لقب بالملك الضليل؛ لأنه لم يكن خلَفا صالحا، بل كان خلْفا طالحا، منغمسًا في الطرب والترفه. والقروح بمعنى الجروح، ولقب به؛ لأنه قد مات بقروح أصابته من لبس جبة مسمومة. 14 وطغى لقبه امرؤ القيس على اسمه وعُرف به. إلى جانب ذلك عرف بثلاث كنى. قيل كنية امرئ القيس أبو عمرو، وقيل أبو الحارث، وقيل أبو كبشة. 15
كان أبوه ملك أسد وغطفان، وأمه فاطمة بنت ربيعة، أخت المهلهل. 16 وكان قباذ، ملك فارس، ملّك الحارث بن عمرو جد امرئ القيس على العرب. ويقول أهل اليمن: إن تبعا الأخير ملّكه، وكان الحارث ابن أخته، فلما هلك قباذ، وملك أنوشروان، ملّك على الحيرة المنذر بن ماء السماء، وكانت عنده هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر، فولدت له عمرو بن المنذر وقابوس ابن المنذر، وهند عمة امرئ القيس، ثم ملكت بنو أسد حجرًا عليها، فساءت سيرته، وظلمهم وأذلهم، فكان يأخذ منهم شيئًا معلومًا، فامتنعوا منه، فسار إليهم فأخذ سرواتهم فقتلهم بالعصى، فسمّوا عبيد العصا، وأسر منهم طائفةً، فيهم عبيد بن الأبرص، فقام بين يدي الملك، وقال:
عين ما فأبكى بني
أسد هم أهل الندامة
أنت المليك عليهم
وهم العبيد إلى يوم القيامة
فرحمهم الملك وعفا عنهم وردّهم إلى بلادهم. 17
كان أبوه ملكا جبارا عنيدا، لم ترض رعيته بقيادته وسيادته، ومخافة أن يقتلهم أو ينهب أموالهم كانوا يمدحونه في الخطب والأشعار والقصائد.
تنقسم حياة امرئ القيس إلى مرحلتين، الأولى: مرحلة الشباب العابث. والثانية: مرحلة السعي العائر إلى الملك. يفصل بينهما مصرع أبيه، نشأ في نجد، في أسرة توارثت الملك، ودانت لها قبائل العرب من ربيعة ومضر، ومضى يتردد بين أسرة أبيه وأسرة خاله المهلهل من تغلب، مزهوًا بنفسه وبملك أبيه، غارقًا في لذائذ الدنيا، إن مال إلى اللّٰهو وجد بين الإماء والقيان طلبته، وإن طلب الطرد والقنص سار في ركابه فتيان مجان، يبغون ما يبغي من نزو على الجياد، ومطاردة للفرائس، وعندما تنادى امرؤ القيس في ضلاله طرده أبوه، فلم يزد الطرد مجانته إلا اطرادًا، وإلحاحًا على الغي؛ إذ راح ينفق عمره في الشهوات، ويعايش من شذ وتصعلك، ومن غوى وفسق، وبينما هو غارق في لذائذه، وقعت واقعة نقلته من المجون إلى الشجون، ومن الخمر والقمر، إلى الغم والهم. 18 وهي وقعة قتل أبيه، قسمت حياته في مرحلتين، حياة ما قبل موته وحياة ما بعده، وله تأثير عميق على شعره.
كان امرؤ القيس يعيش عيشة الملوك والأمراء في رخاء وسراء، غارقًا في لذائذ الدنيا، وكان أبوه ساخطًا عليه بما كان يصنعه، لكنه لم يطرده ولا أجلاه من بيته، فكان في أسرته إذ مس كرامة أبيه وأسرته حيث هتك عرض امرأة نبيلة في أشعاره، فطرده أبوه لما صنع فى الشعر بفاطمة ما صنع، وكان لها عاشقًا، فطلبها زمانًا فلم يصل إليها، وكان يطلب منها غرةً حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان، فأنشد قصيدة، مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فلما بلغ ذلك حجرا أباه دعا مولى له يقال له ربيعة، فقال له: اقتل امرأ القيس، وأتني بعينيه، فذبح جوذرا فأتاه بعينيه، فندم حجر على ذلك، فقال: أبيت اللعن! إنى لم أقتله، قال: فأتني به، فانطلق فإذا هو قد قال شعرًا في رأس جبل، وهو قوله:
فلا تتركنى يا ربيع لهذه
وكنت أرانى قبلها بك واثقا
فرده إلى أبيه، فنهاه عن قول الشعر، ثم إنه قال قصيدة، مطلعها:
ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فبلغ ذلك أباه فطرده. 19 أنشد امرؤ القيس في هذه القصيدة أشعارًا تشبب بعشيقته الأخرى سلمى رغم منع أبيه إياه. 20 فأصبحت هذه القصيدة سببا لطرده من البيت.
بعدما طرده أبوه من البيت ازداد ترفًا وطربًا، فكان يسير في أحياء العرب، ومعه طائفة من شباب القبائل الأخرى، يجتمعون على الشراب والغناء عند روضة أو غدير، ويخرج هو للصيد فيصيد ويطعمهم من صيده، وظل كذلك حتى جاءه نعي أبيه وهو بدمون، فأثار في قلبه ضجة غيرت حياته حتى ترك الملاهي والملاعب. وخبر قتله أن أباه لما أصبح ملكا لبني أسد ضيق الخناق عليهم، وضاقوا صدرا من تحمل شدائده ومصاعبه، حتى عزموا على قتله، وذات يوم مدحه أحدهم في أبيات ففرح بذلك، وأطلق سراح أسراهم، فبدأوا بالسفر حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة، تكهنّ كاهنهم عوف بن ربيعة الأسدي، فقال: يا عباد، قالوا: لبّيك ربّنا! فقال: والغلّاب غير المغلّب، فى الإبل كأنها الرّبرب، لا يقلق رأسه الصّخب، هذا دمه يثعب، وهو غدا أول من يسلب، قالوا: من هو ربّنا؟ قال: لولا تجيش نفس جايشه أنبأتكم أنّه حجر ضاحيه، فركبت بنو أسد كلّ صعب وذلول، فما أشرق لهم الضّحى حتّى انتهوا إلى حجر، فوجدوه نائمًا فذبحوه، وشدّوا على هجائنه فاستاقوها. 21
قيل: إن حجرًا لما استجار عوير بن شجنة لبنيه وأهله تحول عن بني أسد، فأقام في عشيرته كندة مدة، وجمع لبني أسد منهم جمعا عظيما، وأقبل مدلا بمن معه من الجنود، فتآمرت بنو أسد بينها، وقالوا: واللّٰه لئن قهركم هذا ليحكمن عليكم حكم الصبي، وما خير عيش يكون بعد قهر، وأنتم بحمد اللّٰه أشدّ العرب، فموتوا كراما، فساروا إلى حجر، وقد ارتحل نحوهم، فلقوه، فاقتتلوا قتالا عنيفا، وكان صاحب أمرهم علباء بن الحارث، فحمل على حجر فطعنه، فقتله، وانهزمت كندة وفيهم يومئذ امرؤ القيس بن حجر، فهرب على فرس له شقراء، وأعجزهم، وقد قتلوا من أهل بيته طائفة، وأسروا أخرى، وملأوا أيديهم من الغنائم، وأخذوا جواري حجر ونساءه وكل ما كان معه من أموال، واقتسموا ذلك جميعه. 22 ثم ملّكت بنو أسد حجرًا عليها، فساءت سيرته، فجمعت له بنو أسد، واستعان حجر ببني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فبعثت بنو أسد إلى بني حنظلة تستكفّها وتسألها أن تخلي بينها وبين كندة، فاعتزلت بنو حنظلة، والتقت كندة وأسد، فانهزمت كندة وقتل حجر، وغنمت بنو أسد أموالهم، وكان قاتل حجر علباء بن الحرث الأسدي، وأفلتَ امرؤ القيس يومئذ، وحلف أن لا يغسل رأسه ولا يشرب خمرا حتى يدرك ثأره ببني أسد. 23
على كل حال، من المحتوم أن موت أبيه كان بمثابة الحادث المفاجئ الذي آلمه وأوقعه في الفجع الشديد، ونقش على قلبه أثرًا بليغًا؛ لأنه كان مطرودًا من البيت حزينًا على فراقه، فتحولت حياته من الشعر والأدب إلى الثأر والضرب، ومن الترفه إلى الانتقام، فصمم عزمه على أخذ الثأر، وترك كل ما كان فيه غارقا، من الملذات والملاهي والشهوات. وعندما وصله خبر أبيه قال: ضيعني صغيرًا، وحملني دمه كبيرًا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدًا. اليوم خمر وغدًا أمر. فآلى ألا يأكل لحمًا، ولا يشرب خمرًا، ولا يدهن، ولا يصيب امرأةً، حتى يدرك ثأره. 24
قبل أن يؤكد عزمه على أخذ الثأر استقسم في قتال بني أسد كما هي عادة معروفة عند العرب، روي: لما أقبل امرؤ القيس بن حجر يريد بني أسد ثائرًا بأبيه، وكان مرثد بن علس بن ذي جدن ملك جهينة قد أمده بخمسمائة رجل من حمير رماة، فسار حتى مر بتبالة وبها ذو الخلصة، وكانت العرب كلها تعظمه، فدخل امرؤ القيس عليه وعنده قداح ثلاثة، الآمر والناهي والمتربص يستقسم في قتال بني أسد، فخرج الناهي، فأعاد، فخرج الناهي، فكسر الأقداح وضرب به وجه ذي الخلصة، وقال: عضضت بأير أبيك! لو كان أبوك المقتول لما عرفتني. 25
فلبس امرؤ القيس لامة الحرب، وحاولت قبيلة أسد أن تترضاه، فلم يرض. 26 يظهر أن بني أسد خافوا العاقبة، فأرسلوا إليه وفدًا للمفاوضة، وعرض عليه الوفد إحدى ثلاث: القصاص، أو الفداء، أو النّظرة، أي: الإمهال حتى تضع الحوامل، فتعقد الرايات وتكون الحرب، فقال: لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم، وإني لن أعتاض به جملا أو ناقة، فأكتسب بذلك سبّة الأبد، وفتّ العضد. وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنّة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل القلوب حنَقا وفوق الأسنة علقًا، أي: دما، ورويدًا ينكشف لكم دُجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير، فنهضوا عنه، وقد عرفوا أنه طالبهم. 27 فلم يمتنع ولم يتخلف عن عزمه المصمم رغم خروج الناهي في الاستقسام، ولما بلغ الخبر بني أسد انتقلوا عن منازلهم، فنزلوا على قوم من بني كنانة بن خزيمة. 28 فقاتلهم حتى كثرت الجراح والقتلى فيهم، وحجز الليل بينهم، وهربت بنو أسد، ولم تشف هذه المقتلة غلّ امرئ القيس، واستنصر بقَيْل يُدعى مرثد الخير بني جَدن الحميري، فنصره وأمّده بخمسمائة رجل من حِمير، ولكن هذا المدد لم يحقق النصر لامرئ القيس، فاضطر امرؤ القيس إلى التجول من أمير إلى أمير، وإلى تجرع الغصص غصّة بعد غصّة، فترك ماله وأسلحته لدى السموأل بن عادياء، ويمم شطر قيصر. 29
انتهى إلى قيصر في القسطنطينية، وهو حينئذ جوستنيان، فأكرمه ورفع منزلته، وضم إليه جيشا كثيفا، ولما فصل اندسّ إلى جوستنيان رجل من بني أسد يقال له: الطماح، فقال له: إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارًا يشهّر بها في العرب، فيفضحها ويفضحك، فبعث إليه القيصر حينئذ بحلّة وشي مسمومة منسوجة بالذهب، وقال له: إنى أرسلت إليك بحلتي التى كنت ألبسها؛ تكرمةً لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل منزل، فلما وصلت إليه لبسها واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فلذلك سمّي ذا القروح. 30 فعاش عيشا ضيقا في الحروب، يريد أخذ الثأر وقصاص أبيه، لكنه لم ينحج في ذلك حتى مات.
كان امرؤ القيس أعظم شعراء عصره، صاحب إحدى المعلقات، وهي أفخرهن وأشهرهن، التي أولها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل 31
لم ير مثله في الشعر العربي، كان في الحقيقة رئيس الشعراء في العصر الجاهلي، وهو أمیر الشعراء بشهادة خیر الأنبیاء وسید الفصحاء صلى اللّٰه عليه وسلم؛ وذلك أنه ذكر عنده یوما. فقال صلى اللّٰه عليه وسلم: (( ذاك رجل مذكور في الدنیا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا، خامل في الآخرة، یجيء یوم القیامة معه لواء الشعراء یقودهم إلى النار )). 32
روي عن معد يكرب عن أبيه عن جده قال: بينا نحن عند رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إذ أقبل وفد من اليمن فقالوا: يا رسول اللّٰه، لقد أحيانا اللّٰه ببيتين من شعر امرئ القيس! قال صلى اللّٰه عليه وسلم: وكيف ذاك؟ قالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق، أخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثًا لا نقدر على الماء، فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر؛ ليموت كل رجل منا في ظل شجرة، فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير، فلما رآه بعضنا، قال والراكب يسمع:
ولما رأت أن الشريعة همها
وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الظل عرمضها طامي
فقال الراكب: ومن يقول هذا الشعر وقد رأى ما بنا من الجهد؟ قال: قلنا: امرؤ القيس بن حجر. قال: واللّٰه ما كذب، هذا ضارج عندكم، فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعًا، فحبونا إليه على الركب، فاذا هو كما قال امرؤ القيس: عليه العرمض يفيء عليه الظل، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار )). 33
لا شك أنه كان مصداق ما قال فيه الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم؛ لتورطه في الشرك وتوغله في الفسق، وانهماكه في الذنوب، وانغماسه في الفجور، لكنه اشتهر بين الناس وأثنوا عليه؛ لنبوغه في فن الشعر. ذكروا أنه من شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي، وهم زهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني، والأعشى ميمون، وامرؤ القيس. ثم اختلفوا في تقديم أحدهم على طبقته، وفضّل كثير من الأدباء شاعرنا أكثر من الذين فضلوا سواه، منهم ابن رشيق القيرواني، يقول: ولكل واحد منهم طائفة تفضله وتتعصب له، وقلما يجتمع على واحد إلا ما روي عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في امرئ القيس: أنه أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار، ويروى أن عليا كرم اللّٰه وجهه فضله على شعراء الجاهلية؛ لأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة، وعمر بن الخطاب رضي اللّٰه تعالى عنه والفرزدق، وابن سلّام الجحمي، كلهم شهدوا له بالسبق. 34
لقد فاق أقرانه بابتكاره في فنون شعرية، وأساليب إيجابية، متحلية بالبلاغة والفصاحة؛ فإن شعره يتميز عن الآخرين بالأدب البلاغي والكمال الشعري، والدليل على ذلك أن قصيدته كانت في رأس المعلقات السبعة؛ وذلك أن العرب كانوا إذا عمل أحدهم قصيدة عرضها على قريش، فإن أجازوها علقوها على الكعبة؛ تعظيمًا لشأنها، فاجتمع من ذلك هذه المعلقات السبع، فالأولى لامرئ القيس بن حجر الكندي. 35
شعر امرئ القيس متنوع إلى أسلوبين، قياساً على حياته، حيث أنها أيضاً منقسمة إلى مرحلتين، فأسلوبه الأول يحتوي على الزينة والجمال، والمناظر البهية، والحب والعشق، والوصال والفراق وغيرها من محتويات رائعة، وأما أسلوبه الثاني فقد تغاير عن الأول تمامًا، فهو وإن كانت فيه المحتويات الأولى إلا أنها مغلوبة بالحزن والتذمر. قيل: كان شعر امرئ القيس في المرحلة الأولى من حياته غزلًا ووصفًا لمجالس الأنس والخمر، والحصان رفيقه في الصيد، ومطيته في ميادين القتال. وفي المرحلة الثانية غلب على شعره المدح والهجاء والفخر بالملك القديم ووصف الناقة وسيلته في قطع الفلوات. ومن حيث العواطف، كان شعره في المرحلة الأولى يتّفجر حيوية وتفاؤلاً وزهواً واعتزازاً، فلما فُجع بأبيه، غرق في الشكوى والحزن والتذمّر من غدْر الناس والزمان، وفي الأسلوب كانت ألفاظ الشاعر في المرحلة الأولى أقرب إلى العذوبة والوضوح والانسياب، ولم تفارق هذه الخصائص أسلوبه في المرحلة الثانية، لكن ألفاظه شابها المقت، وخالطتها الكآبة. 36
بلغ امرؤ القيس إلى ذروة الكمال في كلا الأسلوبين؛ إذ إن قريحته الفطرية وخبرته الشعرية قربت شعره إلى الحقيقة الواقعية، وبناءً على طبيعته الرائعة المتينة ذكر أفكاره الرائقة والزينة الرائعة في أشعاره بأحسن أسلوب وأجوده، وقد تمهر في الفنون الشعرية حتى عد موجدًا لعدة فنون أدبية بأسلوب جديد. يقول ابن قتيبة: وقد سبق امرؤ القيس إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتّبعته عليها الشعراء، من استيقافه صحبه في الديار، ورقّة النسيب، وقرب المأخذ. 37 وهو أول من أجاد القول في استيقاف الصحب، وبكاء الديار، وتشبيه النساء بالظباء والمها والبيض، وفي وصف الخيل بقيد الأوابد وترقيق النسيب، وتقريب مآخذ الكلام، وتجويد الاستعارة، وتنويع التشبيه، وذلك لسعة خياله بكثرة رحلاته، وقد يفحش في تشبيبه بالنساء وتحدثه عنهن، ويشتم من شعره رائحة النبل، وتلمح فيه شارات السيادة والملك. 38 ولذلك عدت قصيدته أجود القصائد العربية، التي طليعتها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
رخاء تسح الريح في جنباتها
كساها الصبا سحق الملاء المذيل
ترى بعر الآرام في عرصاتها
وقيعانها، كأنه حب فلفل
كأني غداة البين، يوم تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون: لا تهلك أسى، وتجمل 39
هذه عدة أبيات من قصيدته، تدل على أنه كان في أشعاره وقصائده يعبر عن أفكار العرب الخالصة، ومفاهيمها الواضحة، وعن الفطرة الإنسانية والرغبات الشهوانية، وقد عبر في هذه القصيدة عن كآبة أصابته بفراق عشيقته. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه المعلقة تحتوي على فنون شعرية ابتكرها امرؤ القيس كالبكاء على باب العشيقة وغير ذلك من فنون مندرجة في هذه المعلقة التي تعتبر بكاملها نماذج نادرة للأدب العربي.
من عجيب شأنه أنه قال في الجاهلية ما جاء فيه شرائط أهل الجنة وأوصافها، وإن كان لم يعرفها ولم يؤمن بها حيث قال:
ألا أنعم صباحًا أيها الطلل البالي
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد مخلد
قليل الهموم ما يبيت بأوجال
فذكر السعادة التي هي جامعة خير الدارين، ثم الخلود الذي هو أحسن أحوال أهل الجنة، ثم ذكر قلة الهموم التي هي أجل الرغائب، ثم أشار إلى الأمن وهو أنفس المواهب. 40
كان يتميز عن أقرانه بالطموح الفكري وبقوة مخيلته، وكان الشعر راسخًا في نفسه متغلغلًا في قلبه حتى أنشد الشعر عند لبس الجبة المسمومة وارتحاله من عالم الفناء إلى عالم البقاء، فقال وهو في سكرات الموت: رب خطبة مسحنفرة، وطعنة مثعنجرة، وجفنة متحيرة، حلت بأرض أنقرة. 41 وهذا آخر شيء تكلم به امرؤ القيس. 42 فأسرع السم في بدنه وسقط جلده، ورأى قبر امرأة من بنات ملوك الروم، وقد دفنت بجنب عسيب، وهو جبل، فأنشد شعرًا، ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك. 43
ملخص المقال في هذا المجال أن شعر امرئ القيس ما زال يمثل مرحلة بارزة في السمو الفكري والأدب العربي، ولا يزال المتأخرون من الشعراء يحذون حذوه في إنشاد القصائد والأشعار، وأثنى عليه العرب كلهم قديماً وحديثاً، حيث كان شاعرًا بليغ البيان فصيح اللسان، له أسلوب شعري رائع، وامتلك سمو الفكر ودقة النظر، وذلك دليل على كماله التام في فن الشعر، وأيضاً أصبح محظوظًا بالرئاسة في ميدان الشعر ومضمار الشعراء في الدنيا، وسيكون قائدهم إلى النار في العقبى، لكن أصل الفلاح والنجاح ليس هو المهارة والبراعة في الفن والأدب، بل الفلاح الحقيقي في الدنيا هو الإيمان بوحدانية اللّٰه وبنبوة محمد صلى اللّٰه عليه وسلم، وتوجيه النفس إلى العمل بما جاء به الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، ومن المؤسف أن امرأ القيس قد حرم من ذلك.