لم تكن وسائل التجارة والاقتصاد وفيرة بكثرة في جزيرة العرب؛ لما أنها متألفة من أرض قفراء أو صحراء، فكان العرب يسافرون إلى بلدان نائية في تجاراتهم للرخاء الاقتصادي، وقد أوصلوا أسلاك تجارتهم إلى كل منطقة من بيضة الأرض ووسعوها إلى أنحاء العالم القديم حيث أمكن لهم الوصول إلى كل بلدة وحضارة، سواء كان عن طريق البر أو البحر، ويعلم نطاق تجارتهم الواسعة من أن لهم تسلطا على التجارة البحرية للبحر المتوسط، وإلى جانب ذلك وصلت روابطهم التجارية الخارجية إلى الهند وسيلان (سريلانكا) والصين ومصر واليونان وأفريقيا وغيرها من الدول العالمية، ومارسوا التجارة مع الصين مباشرة دون أية واسطة، وأقاموا في العرب أسواقا كبيرة يستورد إليها الناس بضائعهم من بلدان أخرى ويصدرونها.
إن العرب تذكر على الخصوص في أقدم وأعرق أمم العالم، نطلع على تجارة العرب تاريخيا قبل زمن عيسى عليه السلام، وهذا يعني أن العرب كانت لهم مشاغل تجارية واقتصادية قبل الميلاد بقرون، كما ورد في التوراة والمصنفات اليونانية القديمة نصوص تدل على أوضاع تجارية للعرب القديمة. وفي رواية: أن يوسف عليه السلام كان في مصر قبل ألفين وست وتسعين سنة من الميلاد، ساقوه في تجارتهم إلى مصر، فقضي عليه بأن يكون رقيقا عند أمير من حاشية الملك اسمه فوطيفار. 1 ما يدل على قدم تجارة العرب.
امتدت تجارة العرب في الزمن القديم إلى الصين شرقا، ومجمع الجزائر وجبل الطارق، وكان أسطول التجار العرب يسافر في البحر إلى بلدان نائية نحو أفريقيا وإيران والهند والخطا وتركستان وروسيا وآسيا الصغرى، وكانت العرب تنقل على إبلها لمدن مصر والشام التجارية اللبان والمر والعطريات البخورية كالراتينج وغيره من سائر البهارات، كانوا يستوردون بعضها من بلاد الهند لسكان الساحل الجنوبي، وبعضها كان يخرج من بلادهم؛ لأن العرب الذين لم يألفوا الحرب كان أكثرهم يصرف زمنه في التجارة حتى قيل: إن بلاد العرب كانت في الزمن القديم مستودع التجارة التي تربط الأمم بعضها ببعض، ولذلك أراد الإسكند الأكبر أن يجعل قاعدة ملكه بلاد العرب. 2
كما تتضح أوضاع العرب التجارية من صفحات التوراة إلى حد، ومن كتب اليونان التاريخية إلى حد أكبر، تؤكد هذه التصريحات أن التجار العرب قائمون على هذه الخدمات التجارية منذ ألفي سنة قبل الميلاد، وكانوا دائما همزة الوصل بين علاقات الشرق والغرب التجارية، كانت البضائع التجارية تنقل من إفريقيا والهند بالطرق البحرية، وتحط في سواحل اليمن وحضرموت، ومن هناك تنقل عبر الطرق البرية من سواحل البحر من خلال الحجاز ومدين ووادي القرى إلى بلاد الشام، ثم عن طريق بحر الروم إلى أوربا، أو من حدود الشام إلى مصر، ثم منها إلى ميناء الإسكندرية، ومنها إلى أوربا. 3
كان العرب يتصلون ببلاد الهند بثلاث طرق أساسية، إحداها برية واثنتان منها بحريتان، وكانت الطريق البرية تصل أهم مراكز الشرق، كسمرقند ودمشق وبغداد وغيرها بالهند بواسطة القوافل مارة ببلاد فارس وكشمير، وكان التجار الذين يفضلون الطريق البحرية يأتون من بلاد الهند إلى موانئ الخليج الفارسي كميناء سيراف، أو كانوا يدورون حول بلاد العرب ويبلغون موانئ البحر الأحمر، ولا سيما عدن، وكانت السلع التي تصل إلى الخليج الفارسي ترسل إلى بغداد، وترسل من بغداد إلى جميع المدن المجاورة بواسطة القوافل، وكانت السلع التي تنزل في عدن ترسل منها إلى السويس فإلى الإسكندرية وإلى جميع مدن سورية الساحلية، وكان تجار جنوة وفلورنسة وبيزة وكتلونة، يجيئون ليبحثوا عن هذه السلع ويرسلوها إلى أوربة، وكانت مصر خط وصل بين الشرق والغرب، وكانت هذه التجارة العظيمة من موارد غنى الخلفاء المهمة. 4
كما كانت الطريق التجارية المؤدية عبر الحجاز من اليمن إلى بلاد الشام هي التي سماها القرآن الكريم إماما مبينا، وكانت جميع مدن العرب وقراها الكبيرة واقعة على يمين هذه الطريق أو على يسارها، كقرى أصحاب الأيكة والمؤتفكة. 5 يقول القرآن الكريم: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ 78 فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ796 أي: كان ممرا واسعا تمر به القوافل، كما أن منطقة مدين وأصحاب الأيكة تقعان في ممر الحجاز وفلسطين والشام.
كانت التجارة من أكبر وسائل الاقتصاد عند العرب، وكان معظمهم محترفين بالتجارة ويكسبون المعاش بها، ولكن كان للحجازيين واليمنيين وأهل العمان والبحرين قدم راسخة فيها وربط محكم بها.
قبل عدة قرون من زمن عيسى عليه السلام كان الإسماعيليون والإسرائيليون يبيعون الأشياء، ويشترونها بعضهم من بعض، وفي التوراة: أن إخوة يوسف عليه السلام باعوه من الإسماعيليين. ورد في سفر التكوين: جلسوا أي: إخوة يوسف؛ ليأكلوا طعاما، فرفعوا عيونهم، ونظروا وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، وجمالهم حاملة كثيراء وبلسانا ولاذنا، ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر. فقال يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه؟ تعالوا، فنبيعه للإسماعيليين، ولم تكن أيدينا عليه؛ لأنه أخونا ولحمنا. فسمع له إخوته، واجتاز رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر، وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة، فأتوا بيوسف إلى مصر. 7 وهذا ما ذكر في التوراة مع أنه يعارض ما في القرآن، وقد ورد في القرآن أن إخوته ألقوه في الجب ثم أخذته السيارة وذهبوا به إلى مصر وباعوه، ونص التوراة يعارض أوله آخره، حيث قال في آخره: "وأصعدوه من البئر" فإن باعه إخوته فكيف أصعدوه من البئر، والحق ما في القرآن. ويمكن أن السيارة كانوا إسماعيليين وهم ذهبوا به إلى مصر دون ان اشتروه من إخوته. على كل حال إن الإسماعيليين كانوا أثرياء بسبب تجارتهم الوسيعة حتى كانوا مضرب الأمثال في الأموال الهائلة، ولما أغار بنو إسرائيل على مدين فاغتنموا اليواقيت والجواهر من الذهب والفضة والأموال بمقدار كبير، وهذا يعني أن أهل مدين وهم إسماعيليون، كان نطاق تجارتهم واسعا جدا في قديم الزمان.
الأدوميون كانوا أشهر تجار في جزيرة العرب. والبقعة الأرضية التي سكنها الأدوميون تسمى باليونانية إلى اليوم أيدوميا، وتقع في وسط البحر الميت وخليج العقبة، أيلاتة، يقع في شمالها البحر الميت وفلسطين، وفي الجنوب شمالي خليج العقبة ومدين، وفي غربها شبه جزيرة سيناء، وفي شرقها أرض مؤاب وجوف وعرب الشمال، وهي الحد الأخير لبلاد العرب في الجانب الجنوبي الغربي نحو الشام وفلسطين، ويمتد جبل سعير أو السراة في البلاد طولا من الشمال إلى الجنوب. 8
الأنباط هم مثل بقية العرب تجار ماهرون نشيطون. 9 وهم عرب رحل، سكنوا البتراء حوالي سنة خمسمائة قبل الميلاد، ولا يعرف على وجه التدقيق الموطن الذي أتوا منه، وربما كان مجيئهم من شمالي الحجاز أو من أواسط الجزيرة العربية، وهاجموا الحوريين والأدوميين وغلبوهم على أمرهم، وانتزعوا منهم أراضيهم، وتمثلوهم ودمجوهم في الدولة العربية التي أقاموها فيما بعد، والتي دامت أكثر من خمسة قرون، واستمدت نسغ الحياة والقوة من التجارة، وكان لموقعها الحصين أثر كبير في بقائها على قيد الوجود مدة طويلة. 10 وكان عمران دولتهم كعمران دول الجنوب يعتمد على التجارة، فلم تكن بحال من الأحوال دولة حربية لا في نشأتها ولا في تدرجها وارتقائها. 11
امتد نشاط الأنباط التجاري إلى مناطق واسعة، ووصلت علاقاتهم إلى أبعد المناطق المتمدنة آنذاك. فقد تركوا فيما بين بتيولي التي بقيت زمنا طويلا المرفأ الرئيسي للرومان، وبين جرها (العقير حاليا) على الخليج العربي وسواحل البحر الأحمر وديلوس ومليتوس ورودس في اليونان، ودلتا نهر النيل الشرقية ومصر العليا وعند مصب نهر الفرات آثارا كتابية ووثائق لا يزال بعضها محفوظا في متحف نابولي، وكلها تشهد بنشاط الأنباط التجاري في تلك الجهات، مثلما تشهد الوثائق الصينية بمشروعات الأنباط التجارية فيها. وكان من سلسلة المحطات التي تمر بها القوافل التجارية النبطية مدينة لويكة كومة، وهي مدينة عربية كانت تقع على ساحل البحر الأحمر قرب الوجه ومدينة ليلة، وكانتا حلقتين خارجيتين في السلسلة، بينما كانت كل من بصرى وصلخد حلقتين داخليتين. وكان الأنباط يتاجرون في مختلف السلع كالعطور والطيوب والتوابل والأفاوية والمر والبخور يحملونها من اليمن، والحرير والمنسوجات بأنواعها من الصين ومن دمشق والزجاج والأرجوان والأصبغة من صور وصيدا، واللؤلؤ من الخليج العربي، ويوزعونها في مختلف المناطق التي يتصلون بها. باختصار لم تكن تجارة ما تنتقل بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب إلا على يدهم أو مرورا بمدينتهم. 12
كان السبئيون من أهل العربية الشمالية في الأصل، غير أنهم تركوا مواطنهم هذه، وارتحلوا في القرن الثامن، قبل الميلاد إلى جنوب جزيرة العرب، حيث استقروا في منطقة صرواح ومأرب وفي الأماكن السبئية الأخرى. 13 وليس في النصوص العربية الجنوبية شيء عن سبأ أو عن لقبه المزعوم، وكل ما فيها إنما يتحدث عن شعب يدعى سبأ، له دولة، وله حكام، وله آلهة، كغيره من شعوب العربية الجنوبية، وإن كان مما لا ريب فيه أن المصادر التاريخية قد تحدثت عن دولة سبأ، أكثر من غيرها من دول العربية الجنوبية. 14
كان السبئيون ملاحين ماهرين وتجارا نشيطين، عبروا المحيط الهندي إلى الشرق الأقصى، معتمدين على معرفتهم بمواقيت حركات الرياح الموسمية التي تتبدل اتجاهاتها بحسب المواسم والفصول، فاحتكروا التجارة مع الهند، وجنوا من ذلك الأرباح الطائلة، إذ كان لهم أسطول تجاري يجوب موانئ الهند والصين والصومال وسومطرة وغيرها، وينقلون على متنه التوابل والأفاوية وغيرها من سلع الهند، وبعد أن يفرغوها في ساحل عمان يسيرون بها برا حتى البحر الأحمر، ومن هناك ينقلونها إلى مصر على ظهور السفن عن طريق البحر الأحمر. كما سيطر السبئيون على الطرق التجارية التي تصل اليمن بالشمال، وهي التي تسير من مدينة شبوة في حضرموت إلى مأرب فمكة فالبتراء فغزة، وقد بقي رخاء السبئيين مستمرا لمدة طويلة، فزهدت بلادهم، وازدهرت واتسعت ثروتهم، واتجهوا إلى العمران فبنوا السدود والخزانات والقصور والهياكل والمعابد وأحاطوها بالأسوار وتفننوا في تزيينها وزخرفتها وتجميلها، وغرسوا الحدائق حولها، واستتموا أسباب القوة التي تميز بها عهد المكربين. 15
كانت قريش قوما تجارا، وإنما سميت قريشا؛ للتقرش، وهو التجارة والاكتساب. 16 ولما كانت قريش تسكن مكة في مكان متوسط بين اليمن والشام غير ذي زرع، وليس بهذا المكان موارد تكفيهم، فقد اتخذ القرشيون التجارة مهنة لهم، وأصبحوا ينافسون عرب اليمن، وغدت تجارة قريش على عهد هاشم بن عبد مناف تخرج في قوافل عظيمة تشبه الجيش، وقد بلغت أحيانا خمسمائة وألف بعير، تتقدمها الكشافة تتعرف ما في الطريق، والهداة يهدون السبيل والحراس يخفرونها. 17
تنعقد في مكة وحولها أعظم أسواق العرب التجارية والأدبية في موسم الحج من كل عام، وقوافلها التجارية تجوب أطراف شبه الجزيرة العربية، تحمل التجارة بين الشرق والغرب، متجهة إلى اليمن وإلى الحبشة وإلى الشام وإلى العراق. وقد أتاح لها هذه الفرصة موقعها الممتاز في وسط طريق التجارة البري المار بالحجاز، وهو الطريق الوحيد الذي بقي آمنا في ذلك الوقت. كما أتاح لها موقفها الحيادي أن تمثل دور الوسيط المحايد في نقل التجارة التي كانت ضرورية لكل من الشرق والغرب، وبذلك تمتعت بظروف اقتصادية طيبة من مزاولتها للتجارة بشقيها، الداخلية والخارجية، وقد أجرى رجال مكة الترتيبات المفصلة التي تكفل لهم الانتفاع بهذا الظرف على أكمل وجه، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير، وجنوا من وراء ذلك ثروة كبيرة عوضتهم عن فقر البيئة التي تحيط بمكة، وجعلتهم يحتلون مركز الزعامة في الجزيرة العربية كلها في بداية القرن السابع الميلادي. 18 كما كان من أكابر تجارهم في منتصف القرن السادس الميلادي هاشم بن عبد مناف، وعبد الشمس، وعبد المطلب، ونوفل بن عبد مناف.
اسم هاشم عمرو، وإنما قيل له هاشم، لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه. 19 قد كان هاشم رجلا حكيما نشيطا، واستطاع أن يقوم على ترتيب القوافل التجارية؛ فجعل لها رحلتين في السنة رحلة في أشهر الصيف إلى الشمال، ورحلة في أشهر الشتاء إلى الجنوب، وقد عمل على تأمين طرق القوافل بما عقده من محالفات مع رؤساء القبائل الضاربة على جنبات طرق التجارة، فكان يحمل لهم تجاراتهم دون أجر؛ وبذلك ربط هاشم مصالح القبائل الاقتصادية بمصلحة مكة، وكون بذلك شبكة تجارية تربط مكة بما حولها، وبذلك أخذت قريش تسيطر شيئا فشيئا على التبادل التجاري بين الشمال والجنوب، وعظمت قوافلها حتى لتبلغ القافلة الواحدة خمسمائة وألفي بعير تحمل عروض التجارة المختلفة. 20
المطلب قد تولى الرفادة والسقاية بعد وفاة أخيه هاشم. 21 وهو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها إلى أرضه. 22
خرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه، فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش وإيلافا ممن مر به من العرب. ثم قدم مكة ورجع إلى العراق فمات بسلمان. 23
كانت للعرب صلات تجارية محكمة بمصر والهند وإيران والصين والروم ويونان وأفريقية وبابل والشام وغيرها، يمارسون التجارة مع هذه الدول عن طريق البر والبحر. أما التجارة البرية فكانت بالقوافل الكبيرة التي تنقل السلع من مكان إلى مكان، والبحرية كانت بأساطيل بحرية تنقل البضائع عن طريق البحر إلى بلاد نائية،كما كانت التجارة متداولة عندهم بالسفن الصغيرة مع المستوطنات والقبائل المجاورة، ولو قورنت تجارتهم البحرية بالبرية لكانت البحرية أوسع نطاقا وأكثر فائدة من البرية.
كان التجار العرب الذين يختلفون إلى مصر سنة ألفين قبل الميلاد، وكانت بضائعهم التجارية البلسان، والصنوبر، واللبان، وغيرها من البخور. 24 وحينئذ كانت تجارة المصريين تحت سيطرة العرب، وعلاقتهم التجارية مع المصريين أقدم منها بالآخرين. كما كانت الزراعة شائعة في المناطق العربية التي تجاور في العصور القديم نهر النيل ونهر الفرات ونهر دجلة، وهي كانت منطقة متمدنة حضارية، وبما أنها تقع في جانب الجزيرة تعتبر سوقا تجاريا ومركزا صناعيا، يتوجه إليها التجار من القبائل الساكنة في الصحاري النائية ومن مصر وبابل، ويتداول هناك بيع السلع بالسلع، فأكثر ما يشتري العرب من المصريين حبوبا وآونة وأسلحة، ويبيعونهم عوض ذلك جمالا وخيولا وأغناما وأنعاما ونحوها. 25
لقد قامت بين العرب وأهل صور علاقات وصلات تجارية برية وبحرية منذ زمن قديم، كانوا يصدرون بضائعهم في صورة القوافل التجارية إلى العرب عبر الحجاز عن طريق البر بينما يصدرونها عبر خليج العقبة عن طريق البحر، وأحيانا يأتون عن طريق صيدا. 26 وسكان صور كانوا ملاحين، ينقلون البضائع في السفن والأساطيل، لكنهم كانوا من مخاطر البحر الأحمر والبحر الهندي، فكان اليمنيون يصدرون محاصيلم إلى جزيرة العرب.
كما ورد في التوراة ذكر تجارة الصوريين على هذا النحو: حران وكنة وعدن، تجار شبا وأشور، وكلمد تجارك (أي، تجار صور، خطابًا لصور)، هؤلاء تجارك بنفائس، بأردية أسمانجونية، ومطرزة، وأصونة مبرم، معكومة بالحبال، مصنوعة من الأرز بين بضائعك، سفن ترشيش قوافلك لتجارتك، فامتلأت وتمجدت جدا في قلب البحار، ملاحوك قد أتوا بك إلى مياه كثيرة، كسرتك الريح الشرقية في قلب البحار، ثروتك وأسواقك وبضاعتك وملاحوك وربابينك وقلافوك والمتاجرون بمتجرك وجميع رجال حربك الذين فيك، وكل جمعك الذي في وسطك يسقطون في قلب البحار في يوم سقوطك. 27
كانت للعرب صلات وعلاقات تجارية مع بني إسرائيل في عهد سليمان عليه السلام. فكانت سفن سليمان عليه السلام تحمل الذهب من أدفر ميناء اليمن. 28 وكان سليمان عليه السلام قد طلب مع شريكه جيرام أربعمائة وخمسين قنطارا من الفضة عن طريق بحر أوفير. وكانت لسبأ تجارة مع بني إسرائيل، وقد وردت في التوراة آيات تلوم الفينيقيين والفلسطينيين عندما باعوا خزائن المعبد من اليهود واليونان:
"ماذا أنتن لي يا صور وصيدون وجميع دائرة فلسطين؟ هل تكافئونني عن العمل، أم هل تصنعون بي شيئا؟ سريعا بالعجل، أرد عملكم على رؤوسكم؛ لأنكم أخذتم فضتي وذهبي وأدخلتم نفائسي الجيدة إلى هياكلكم، وبعتم بني يهوذا وبني أورشليم لبني الياوانيين؛ لكي تبعدوهم عن تخومهم، هأنذا أنهضهم من الموضع الذي بعتموهم إليه، وأرد عملكم على رؤوسكم، وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا ليبيعهم للسبائيين لأمة بعيدة؛ لأن الرب قد تكلم". 29 فكان بنو إسرائيل يبيعون البضائع والسلع في جزيرة العرب وأسواقها.
منذ زمن قديم اتصل العرب والفرس اتصالا تجاريا، كانت له عدة وسائل. منها أن السبئيين كانوا حلقة اتصال بين الهند والحبشة وشرقي إفريقية وبين شمالي آسيا وشمالي إفريقية، وكانت عمان الإقليم الشرقي لهذه المتاجر. ومنها أن المملكة الحميرية لما ضعفت فانتقلت المكانة التجارية إلى مكة، وعقدت مكة معاهدات تجارية مع الأمم المجاورة، إذ أخذ بنو عبد مناف العصم لقريش، وكانت إحدى هذه العصم أو المعاهدات معاهدة أخذها نوفل من ملك فارس، فتردد العرب على العراق وعلى فارس، وبهذه المعاهدات التي عقدها أبناء عبد مناف مع حكام الشام من روم وعرب، ومع الفرس والحبش وحمير جبّر اللّٰه قريشا وأصلح أحوالها، وأفاء عليها كثيرا من الخيرات، فسمي الأربعة الذين عقدوا المعاهدات المجبّرين. على أن العرب كانوا منذ زمن قديم يقدمون على الفرس بمتاجرهم وسلعهم، ويمتارون من عندهم الحب والثمر والثياب وغيرها، وكانوا إذا أجدبوا قصدوا العراق وفارس فيشترون الثمر والشعير، ثم يعودون إلى بلادهم؛ خوفا من الذلة في سلطان دولة أعجمية. 30
كان العرب يتصلون بالصين بطرق برية وطرق بحرية كاتصالهم ببلاد الهند، وكانوا يذهبون إلى الصين بحرا من شواطئ بلاد العرب أو من موانئ الخليج الفارسي، فيصلون على جنوبها توا. وكان العرب يقومون برحلات متواصلة إلى بلاد الصين. ويبدو أن طريق البحر لبلاد الصين كانت غير مسلوكة كما يجب، وكان سلوك طريق البر بواسطة القوافل أعظم يسرا أو أكثر استعمالا، وكانت السلع التي يؤتى بها من الصين إلى مدينة سمرقند التركية ترسل رأسا إلى مدينة حلب في آسية الصغرى؛ فتوزع منها على أهم مدن الشرق. 31 وكان التجار يرسلون إلى بلاد الصين ثمين الحجارة والمرجان والخيل والمنسوجات الصوفية وأجواخ البندقية القرمزية. ويأخذون النسائج الحريرية والديباج والقاشاني والشاي ومختلف المستحضرات الصيدلية في مقابلها. 32
إن العرب هم الذين يتحكمون في التجارة الهندية منذ عهد يوسف عليه السلام حتى عصر فاسكودي غاما، وحتى عصر ماركوبولو. 33 وكان العرب يتصلون ببلاد الهند بثلاث طرق أساسية، إحداها برية واثنتان منها بحريتان، وكانت الطريق البرية تصل أهم مراكز الشرق، كسمرقند ودمشق وبغداد وغيرها بالهند بواسطة القوافل مارة ببلاد فارس وكشمير، وكان التجار الذين يفضلون الطريق البحرية يأتون من بلاد الهند إلى موانئ الخليج الفارسي كميناء سيراف، أو كانوا يدورون حول بلاد العرب ويبلغون موانئ البحر الأحمر، ولا سيما عدن، وكانت السلع التي تصل إلى الخليج الفارسي ترسل إلى بغداد، وترسل من بغداد إلى جميع المدن المجاورة بواسطة القوافل، وكانت السلع التي تنزل في عدن ترسل منها إلى السويس فإلى الإسكندرية وإلى جميع مدن سورية الساحلية، وكان تجار جنوة وفلورنسة وبيزة وكتلونة، يجيئون ليبحثوا عن هذه السلع ويرسلوها إلى أوربة، وكانت مصر خط وصل بين الشرق والغرب، وكانت هذه التجارة العظيمة من موارد غنى الخلفاء المهمة. 34 والطريق الذي كان يمر عبر الخليج الفارسي بقي مفتوحا باستمرار، وظل العرب والمجوس الساكنون على السواحل ينقلون بضائعهم عن طريق البر والبحر، فكانوا يطوفون بجميع المناطق السواحلية من الهند والمحيط ويرحلون مرورا بمنطقة البنغال وآسام إلى الصين ويرجعون منها بنفس الطريق. 35
وكانت السلع التي تنقل على تلك الطرق المختلفة كثيرة، وكانت تبادل، في عدن مثلا، منتجات الصين والهند بمنتجات بلاد الحبشة ومصر، وإن شئت فقل كان يبادل فيها أرقاء بلاد النوبة والعاج والتبر بمنسوجات الصين الحريرية وخزفها المطلي وبمنسوجات كشمير، ولا سيما بالأبايرز والعطور والخشب الثمين. 36
كانت صلات العرب بإفريقية على جانب عظيم من الأهمية أيضًا، فكانت لعرب المغرب صلات تجارية بأقسام إفريقية الغربية على الخصوص، وكان لعرب مصر صلات بأصقاع إفريقية الشرقية والوسطى، وكان عرب مصر يذهبون إلى بلاد السودان بعد أن يقطعوا الصحراء طلبا للذهب والعاج والأرقاء، وبلغ العرب في ارتيادهم إفريقية بقاعا مهمة، ومنها مدن لم يوفق الأوربيون المعاصرون لزيارتها، كمدينة تنبكتو، وكان العرب يصلون إلى السواحل وإلى المناطق الوسطى أيضا. 37
إن الكتابات المعنية التي عثر عليها في جزيرة ديلوس ذات أهمية كبيرة، فإنها تشير إلى وصول المعينيين الجزر اليونانية وإقامتهم فيها، واتجارهم مع اليونان. ومن جملة هذه النصوص، نص مكتوب بالمعينية وبالخط المسند وباليونانية وبالحروف اليونانية، ورد فيه: هنا أي هانىء، وزبد إيل من ذي خذب نصب مذبح ود وآلهة معين بدلث، أي: بديلوس. وورد في اليونانية: يا ود إله معين يا ود. وفي هذا النص دلالة على وجود جالية معينية في هذه الجزيرة وسكناها فيها، وعلى تعلقها بدينها وبآلهتا وعدم تركها لها حتى في هذه الأرض البعيدة عن وطنها. ولعلها كانت تتصل ببلادها، وتتاجر وتتراسل معها، تصدر إليها حاصلات اليونان، وتستورد منها حاصلات اليمن والعربية الجنوبية وإفريقية والهند وتعمل مع اليونان شركة أو تعاونا في أسواق التجارة العالمية ذلك العهد. 38
كانت تقوم في الجزيرة العربية أسواق عديدة، منها ما هو دائم، ومنها ما هو موسمي مؤقت، يعقد في شهر معين من السنة، ومنها ما هو عام يرتاده العرب من شتى أنحاء شبه الجزيرة، أو ما هو محلي يتم فيه التبادل بين التجار والبدو المجاورين. 39 وكانت أسواق العرب عشرة أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم. 40 وقيل: كانت أسواق العرب الكبيرة في الجاهلية ثلاث عشرة سوقا. 41 ويختلف التجار من سوق إلى سوق للبيع والشراء كما كانوا يرتحلون إلى أسواق تقوم في العراق والحبشة والشام.
كانت في الأسواق طائفة من الرجال ينسقون نظامها ويحافظون على أموال التجار ودمائهم. وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق فسموا المحلون، وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر فيسمون الذادة المحرمون. وأما المحلون فكانوا قبائل من أسد وطئ وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة وقوم من بني عامر بن صعصعة. وأما الذادة المحرمون فكانوا من بني عمرو بن تميم وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان وقوم من بني كلب بن وبرة، فكان هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس. 42
أما أشهر الأسواق التي قامت في العرب فهي سوق دومة الجندل، وسوق هجر، وسوق عمان، وسوق المشقر، وسوق عدن أبين، وسوق صنعاء، وسوق حضرموت، وسوق ذي الحجاز، وسوق مجنة، وسوق عكاظ، وسوق حباشة، وسوق صحار، وسوق بدر، وسوق بني قينقاع، وسوق الشحر وسوق عثر وأسواق محلية أخرى تأتيها القبائل والعشائر للامتيار. 43
كان أول هذه الأسواق قياما دومة الجندل، تقع سوق دومة الجندل على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة، وعلى عشر مراحل من الكوفة، وعلى عشر مراحل من دمشق، يوافيها العرب من كل أوب، وقيامها أول يوم من شهر ربيع الأول إلى النصف منه، ثم ترق ولا تزال قائمة على رقتها إلى آخر الشهر. 44 وكانت كلب وجديلة طيئ جيرانها، وكان ملكها بين أكيدر العبادي ثم السكوني وبين قنافة الكلبي، فكان العباديون إذا غلبوا وليها أكيدر، وإذا غلب الغسانيون ولوها قنافة. 45 وكان غلبة الملكين عليها أن يتحاجيا فأيهما غلب صاحبه بما يلقي عليه تركه، والسوق يفعل بها ما شاء ولم يبع فيها أحد من الشام ولا أهل العراق إلا بإذنه، ولم يشتر فيها ولم يبع حتى يبيع الملك كل شيء يريد بيعه مع ما كان إليه من مكسها. وكان للكلب فيها قن كثير في حوانيت من شعر، وكانوا يكرهون فتياتهم على البغاء، فكانوا أكثر العرب قنا. وكانت مبايعة العرب بها بإلقاء الحجارة، وذلك أنهم كانوا يجتمع النفر منهم على السلعة يساومون بها صاحبها فأيهم رضي ألقى حجره، وربما اتفق في السلعة الرهط فلا يجدون بدا من أن يشتركوا وهم كارهون، وربما ألقوا الحجارة جميعا فيوكسون صاحب السلعة إذا تظاهروا عليه. 46
إن أشهر أسواق شرقي شبه الجزيرة العربية سوق المشقر بالبحرين قرب هجر، وكان يرتادها ساكنو الجهات الشرقية والغربية من شبه الجزيرة، كما يرتادها تجار الهند وفارس. 47 تقوم في المشقر سوق للعرب تبتدئ من أول جمادى الآخرة وتستمر إلى سلخه فتنفض ويغادرها الناس إلى جمادى من قابل، وينزلها أخلاط من جميع أحياء العرب، وكانت أرضها معجبة، لا يراها أحد فيصبر عنها. فلها صفات هجر وخصبها إذ هي جزء منها. 48
كانت في عمان سوقان، إحداهما سوق دبا، وكانت مقصد الصينيين والهنود إلى جانب من يقصدها من سكان شبه الجزيرة، والأخرى سوق صحار. 49
كان العرب يرتحلون من المشقر إلى صحار أول يوم من رجب، في غير خفارة فيقدمونها لعشرين يوما تمضي من رجب، فيوافيهم بها من لم يشهد ما قبلها من الأسواق، ومن شغل بحاجة ولم يكن له إرب فيما يباع في الأسواق التي قبلها، فينشرون من بزها وبياعاتها أو يبيعون بها خمسًا، فكان الجلندي يعشرهم فيها وكان بيعهم فيها بإلقاء الحجارة. 50
تمتاز سوق دبى من غيرها بالبضائع الأجنبية التي يحملها التجار من بلادهم في البحر، وتنفذ منها تجارات العرب إلى الخارج. 51 وكانت إحدى فرض العرب يجتمع بها تجار الهند والسند والصين وأهل المشرق والمغرب، فيقوم لها سوقها آخر يوم من رجب، فيشترون بها بيوع العرب والبحر، وبيعهم مساومة وكان الجلندي يعشرهم فيها، وكان يصنع في ذلك فعل الملوك في غيرها. 52
اشتهر في جنوبي شبه الجزيرة العربية سوق الشحر في المهرة. 53 يسيرون بجميع من فيها من تجار البحر والبر إلى الشحر، شحر مهرة، فيقوم سوقهم تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود النبي عليه السلام، ويبيعونهم بما ينفق بها من الأدم والبز وسائر المرافق، ويشترون بها الكندر والمر والصبر والدخن. ولم يكن بها عشور؛ لأنها ليست بأرض مملكة، وكان جميع من يختلف إليها من العرب بتجارة يتخفر ببني يثرب وهي تقلل من مهرة، وكانت سوقهم تقوم للنصف من شعبان وبيعهم بها بإلقاء الحجارة. 54
عدن مدينة ذات موقع جغرافي ممتاز، على بحر الهند إلى جنوبي مضيق باب المندب نحو الشرق. فيها مرسى للسفن الواردة إلى آسيا من البحر الأحمر، وبها كانت تمر مراكب الهند ومصر والحجاز والحبشة منذ القديم للحط والإقلاع، وهي في ذيل جبل ينتهي بسور إلى البحر رديئة الهواء لا ماء بها ولا مرعى، وشرب أهلها من عين بينها وبين عدن مسيرة نحو يوم، والماء ينقل إليها على ظهور الدواب. 55 وسوق عدن تقوم بعد انتهاء أيام سوق الشحر، فيرتحل التجار من الشحر إلى عدن إلا تجار البحر، فإنه لا يرتحل منهم إلا من بقي من بيعه شيء ولم يبعه، فيوافي الناس بعدن من بقي معه من تجار البحر شيء، ومن لم يكن شهد الأسواق التي كانت قبلها. وكانت تقوم أول يوم من شهر رمضان إلى عشر يمضين منه. 56
وأهم تجارات هذه السوق الطيب بأنواعه، ويجلب إليها الأدم والبرود من معافر، وتكثر فيها اللطائم، وبها مغاوص اللؤلؤ. بقيت على شأنها هذا حتى الإسلام فازدهت في عهده تجارتها حتى أصبحت فرضة اليمن ومقر كل فضل مستحسن، وإن الطيب الذي يستعمله سائر الناس كان يتخذ بها، وصار لأهلها بصنعه مهارة فائقة. 57
إن التجار يأتونها بالقطن والزعفران والأصباغ وأشباهها مما ينفق بها، ويشترون بها ما يريدون من البز والحديد وغيرهما، وكانت تقوم في النصف من شهر رمضان إلى آخره. 58
تقوم السوق في رابية بحضرموت، فتعرف أيضا بسوق الرابية، من منتصف ذي القعدة حتى آخره، وربما قامت هي وعكاظ في يوم واحد، فكان بعض الناس يأخذ إلى عكاظ وبعضهم يتوجه إلى رابية حضرموت، وهذه السوق خاصة بمن حولها، ولكن كثيرا ما يأتيها الناس من بعيد، ولقريش قوافل إلى هذه السوق ترسلها في تجاراتها. 59 قال المرزوقي: فأما الرابية فلم يكن يصل إليها أحد إلا بخفارة؛ لأنها لم تكن أرض مملكة، وكان من عزّ فيها بزّ صاحبه، فكانت قريش تتخفر ببني أكل المرار من كندة، وسائر الناس بآل مسروق بن وائل الحضرمي، فكانت مكرمة لأهل البيتين، وفضل أحدهما على الآخر كفضل قريش على سائر الناس، فكان يأخذ إليها بعض الناس وبعضهم إلى عكاظ، وكانتا تقومان بيوم واحد في النصف من ذي القعدة. 60
عكاظ هي المعرض العربي العام أيام الجاهلية، فهي مجمع أدبي لغوي رسمي، له محكمون تضرب عليهم القباب، فيعرض شعراء كل قبيلة عليهم شعرهم وأدبهم، فما استجادوه فهو الجيد، وما بهرجوه فهو الزائف. وحول هذه القباب الرواة والشعراء من عامة الأقطار العربية، فما ينطق الحكم بحكمه حتى يتناقل أولئك الرواة القصيدة الفائزة فتسير في أغوار الجزيرة وأنجادها، وتلهج بها الألسن في البوادي والحواضر. يحمل إلى هذه السوق التهامي والحجازي والنجدي والعراقي واليمامي واليمني والعماني، كل ألفاظ حيه ولغة قطره، فما تزال عكاظ بهذه اللهجات نخلا واصطفاء حتى يتبقى الأنسب الأرشق، ويطرح المجفو الثقيل. وهي السوق التجارية الكبرى لعامة أهل الجزيرة، يحمل إليها من كل بلد تجارته وصناعته كما يحمل إليها أدبه، فإليها يجلب الخمر من هجر والعراق وغزة وبصرى، والسمن من البوادي، ويرد إليها من اليمن البرود الموشاة والأدم، وفيها الغالية وأنواع الطيب وأدوات السلاح. ويباع فيها الحرير والوكاء والحذاء والمسير والعدني، يحملها إليها التجار من معادنها، وفيها من زيوت الشام وزبيبها وسلاحها ما اعتادت قريش أن تحمله في قفولها إلى مكة. ويعرض فيها كثير من الرقيق الذي ينشأ عن الغزو، وسبي الذراري فيباع فيها بيع المتاع التجاري. 61
كانت عكاظ من أعظم أسواق العرب، وكانت قريش تنزلها وهوازن وغطفان وخزاعة والأحابيش، وهم الحارث بن عبد مناة، وعضل، والمصطلق، وطوائف من أفناء العرب ينزلونها في النصف من ذي القعدة فلا يبرحون حتى يروا هلال ذي الحجة، فإذا رأوه انقشعت. ولم يكن فيها عشور ولا خفارة، وكانت فيها أشياء ليست في أسواق العرب. كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد والحلة الحسنة والمركوب الفاره فيقف بها وينادي عليه ليأخذه أعز العرب، يراد بذلك معرفة الشريف والسيد فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته. 62
للمؤرخين في تحديدها قولان: أحدهما أنها على فرسخ من عرفة بناحية كبكب، وكبكب جبل بعرفات خلف ظهر الإمام إذا وقف. والثاني: أنها موضع بمنى، ومنى بين مكة وعرفات في نصف الطريق تقريبًا، والذين نقلوا الأول أكثر عددا وإن كان القول الثاني أدنى إلى القبول. وسمي ذا المجاز؛ لأن إجازة الحاج كانت منه، ولعل السوق أحيانا تمتد أو يتنقل الناس فيها، يقتربون ويبتعدون حتى تشغل هذه المسافة. وذو المجاز من ديار هذيل، هم أهلها وجيرانها الأدنون. 63 فإذا أهل الناس هلال ذي الحجة ساروا بأجمعهم إلى ذي المجاز، وهو قريب من عكاظ وأقاموا بها حتى يوم التروية، ويواتيهم حينئذ حجاج العرب ورؤوسهم ممن أراد الحج ممن لم يكن شهد الأسواق. 64
وعلاوة عما ذكرناها كانت في الجزيرة العربية أسواق أخرى تقوم في شتى المناطق، منها نطاة خيبر، وحجر اليمامة، وعد البعض منها المجنة، وهو موضع تقع وراء حضرموت قريبا من السقي، ومنها سوق دير أيوب، وسوق بصرى تستمر مدتها إلى أربعين يوما.
كانت عديد من المدن والأمصار متاجر عظيمة تستورد فيها السلع من أنحاء العالم، ومن أعظمها اليمن وعدن.
إن الأشياء الثمينة التي يصدرها تجار اليمن إلى جزيرة العرب لم يكن لها نظير في أنحاء العالم ولا عند أحد من التجار، فإن الهدايا التي حملت ملكة اليمن معها إلى الشام لتقديمها إلى سليمان عليه السلام هي الأخرى كانت عبارة عن العطور والذهب والجواهر الثمينة. 65 وكان للمواصلات التجارية في جزيرة العرب طريق غربي مهم يصل اليمن بالشام، مجتازا بلاد اليمن والحجاز، ناقلا أيضا بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام وبضائع الشام إلى اليمن حيث تصدر إلى الحبشة، وإلى الهند في البحر. 66
إن جنوب غربي بلاد العرب، اليمن وحضرموت، كان يعود سبب خيراتها في ذلك الزمن إلى أن التجارات والبضائع المتبادلة بين مصر والهند كانت ترد إلى اليمن أولا عبر الطرق البحرية، ثم كانت تحمل إلى الساحل الغربي عن طريق البر. انقطعت هذه التجارة في ذلك العصر، ذلك أن ملوك مصر من أسرة بطليموس أوجدوا لأنفسهم طريقا مباشرا بين الهند والإسكندرية، ويبدو أن اليونان كانوا قد أقاموا تحقيقا لهذا الغرض مستعمرات لهم في جزيرة سقوطرا بعد استولوا عليها حيث اكتشف الملاحون المسلمون أيضا آثارهم هناك فيما بعد؛ ولكنه من الظاهر أن هذه التجارة لم تكن قد انتقلت بشكل كامل إلى أيدي اليونان؛ لأن المؤرخ اليوناني آكاتهر شيدس يذكر قبل ميلاد عيسى عليه السلام بقرنين أن السفن التجارية تنطلق من سواحل الهند إلى سبأ أي: اليمن ومنها تصل إلى مصر. 67
أما مدينة عدن فهي على شط بحر الهند ولها مرساة أمينة للسفن، كانت لها تجارة واسعة بين الشرق والغرب. 68 كانت تجلب إليها بضائع التجارة المتنوعة من السند والهند والصين، وفيها تباع السيوف المرصعة وقبضة السيف والأدم المدبوغة المصبوغة، والمسك واللجام والفلفل الأسود والنارجيل والفرو والصوف والقاقلة والدارصيني والهليلج الآبنوس والكافور والعظام الفقارية والقرنفل وأنواع من العطريات والنباتات والبهارات، والأقمشة المصنوعة من النباتات وأعلى أنواع النسيج المخمل، وأجود أنواع إيلو.
كانت عدة أنواع من البيع يتبايعها أهل الجاهلية، بل هي صور البيع والشراء أو يمكن التعبير عنها بأقسام البيوع، وإليكم ذكرها بالإيجاز:
المنابذة: وهو أن ينبذ كل من البائع والمشتري ثوبه إلى الآخر ولم ينظر كل واحد منهما إلى ثوب صاحبه على جعل النبذ بيعا. 69
الملامسة: وصورتها أن يلمس كل منهما ثوب صاحبه بغير تأمل، فيلزم اللامس البيع من غير خيار له عند الرؤية، وهذا بأن يكون مثلا في ظلمة أو يكون مطويا مرئيا، متفقان على أنه إذا لمسه فقد باعه.70
بيع الرمي بالحصاة أو إلقاء الحجر: إلقاء الحجر أن يلقي حصاة وثمة أثواب، فأيّ ثوب وقع عليه كان المبيع بلا تأمل ورؤية، ولا خيار بعد ذلك. 71
بيع حبل الحبلة: كان بيعا تبيعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم ينتج التي في بطنها. 72
المزابنة: هي بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر كيلا، وكذا كل ثمر بيع على شجر بثمر كيلا. 73
المحاقلة: هي بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصا. 74
بيع التصرية: كان من عادة بعض العرب إذا أراد بيع شاة أو ناقة امتنع من حلبها أياما فيحتفل اللبن في ضرعها فيعظم، فإذا كان ذلك منها عرضها للبيع، فيظن المشتري أن كثرة لبنها واحتفال ضرعها عادة مستمرة لها، فلا يلبث أن يتبين خطأه بعد شرائها. 75
بيع العريان: وذلك أن يشتري عبدا أو ينكاري دابة ثم يقول للبائع أو المكتري: أعطيك دينارا أو درهما أو أكثر أو أقل على أني إن أجرت العبد أو ركبت الدابة كان من الثمن أو الكراء، وإن تركت السلعة أو الكراء كان لك ما أعطيك باطلا. 76
بيع النجش: وهو أن يزيد في الثمن ولا يريد الشراء ليرغب غيره. 77 وهي في الحقيقة حيلة يختارها البائع بأن يجمع أشخاصا يساومون على مبيعه عند مساومة المشتري فيزيدون في الثمن دون أن يشتروه ويريدون بذلك حث المشتري على أن يشتريه بثمن غال.
بيع المضطر: وهو أن يضطر الرجل إلى طعام أو شراب أو لباس أو غيره ولا يبيعه البائع إلا بأكثر من ثمنه بكثير وكذلك في الشراء منه. 78
بيع الكالي بالكالي: وهو بيع الدين بالدين، وهو بيع الثمن المطلق بالثمن المطلق وهو الدراهم والدنانير وإنه يسمى عقد الصرف أيضا. 79
بيع الغرر: وهو كل بيع لايعلم فيه أحد العوضين المبيع أو الثمن أو لا يعلم قدره أو مدته أو ثمنه المتعين، مثلا قال البائع: أبيع منك الطير في الهواء أو السمك في الماء وغير ذلك.
ولابد من الإشارة إلى أن أقسام البيع وصورها هذه تدل على أن العرب كانوا عارفين بقوانين المؤنة والطلب، عالمين بطرق القمار وبيع المجازفة والتخمين، وكانوا يخرجون من المدينة ويشترون من القوافل التجارية ما كان لديها من البضائع وخاصة الحبوب، ثم يكنزونها ويدخرونها ليحتاج إليها أهل المصر أشد الاحتياج فيبيعونها لهم بأغلى الأثمان، يقرضون الفلوس إلى الفلاحين ربًا، وخاصةً في الطائف والمدينة ويتسلطون على حقولهم ومزارعهم، فتجارهم آنذاك يشبهون ممولي هذا الزمان في حيلة رفع الربحية إلى الحد الأقصى، وهذا أوضح الشواهد على أن الفكرة التمويلية تحدث من زمن قديم.
كان العرب يرابون في الجاهلية وخاصةً أهل الطائف فإنهم كانوا أصحاب ربا. 80 ولا يختلف عنهم أثرياء المدن الأخرى كمكة وغيرها، فإن عماد حياتهم التجارة وعماد تجارتهم الربا. فالربا مورد در على اثرياء مكة، كانوا يتقاضونه من إيداع أموالهم إلى المحتاجين إليها، من تجار ورجال قبائل. 81 وأما أهل ثقيف فقد اتخذوا الربا حِرفة، يرابون في الذهب والسلع كليهما، يقرضون بني مغيرة إلى مدة، ولما تنقضي المدة فيمهلونهم إلى مدة أخرى بشرط مال زائد ويقبله بنو مغيرة.
إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن، يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له: تقضيني أو تزيدني؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك. فإن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباعيا، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضًا، فتكون مئة فيجعلها إلى قابل مئتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه. 82
السبايا هن النساء اللواتي يؤسرن في الحروب. 83 ويسمين الإماء. وكن كثيرات في الجاهلية، يستخدمونهن ويستفيدون منهن في أشغال منزلية وتجارية. بعضهم يكرهونهن على البغاء يبتغون بها المال القبيح، وكان في رأس هؤلاء الذين يكرهون إماءهم عليه عبد اللّٰه بن أبي بن سلول رئيس المنافقين. وكانت له جارية تدعى معاذة، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له. 84 وكان منهن عاهرات يتخذن الأخدان، وقينات يضربن على المزهر وغيره في حوانيت الخمارين كما كان منهن جوار يخدمن الشريفات، وقد يرعين الإبل والأغنام، وكن في منزلة دانية. 85
كان العرب قبل الإسلام يتعاملون بنقود كسرى وقيصر وهي الدراهم والدنانير، وكانت الدنانير على الإجمال نقودا ذهبية والدراهم نقودا فضية. وكانوا يعبرون عن الذهب بالعين وعن الفضة بالورق، وكان عندهم أيضا نقود نحاسية منها الحبة والدانق، على أن مرجع هذه النقود إنما هو إلى الوزن؛ لأن المراد بالدينار قطع من الذهب وزنها مثقال عليه نقش الملك أو السلطان الذي ضربه، والمراد بالدرهم وزن الدرهم من الفضة، ويسمونه أيضا الوافي. 86 وقيل: كانت نقود العرب في الجاهلية التي تدور بينها الذهب والفضة لا غير، ترد إليها من الممالك دنانير الذهب قيصرية من قبل الروم ودراهم فضة على نوعين سوداء، وافية وطبرية عتقا وكان وزن الدراهم والدنانير في الجاهلية مثل وزنها في الإسلام مرتين ويسمى المثقال من الفضة درهما ومن الذهب دينارا ولم يكن من ذلك يتعامل به أهل مكة في الجاهلية وكانوا يتعاملون بأوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم. 87
كانت الدنانير عند العرب قبل الإسلام صنفين، دنانير هرقلية أو رومية، ودنانير كسروية أو فارسية. وكذلك كانت الدراهم، ولكن الغالب أن تكون معاملتهم بالدنانير الرومية والدراهم الفارسية. ولذلك كانت الهرقلية أعز عندهم وأرغب، حتى ضربو المثل بجمالها وزهوها. والدينار لفظ لاتيني، والأصل فيه الدلالة على قطعة من الفضة تساوي عشرة آسات، والآس درهم من دراهم الروم، والدينار ضرب أولا لهذه الغاية، وهو مشتق من ديني، أي عشرة، وكان وزن سبع الأوقية الرومانية أو جزءا من مائة من الرطل. 88
كانت الدراهم في الجاهلية على نوعين مختلفين، بغلية وطبرية، نوع عليه نقش فارس، والآخر نقش الروم، فالبغلية نسبة إلى ملك يقال له رأس البغل وهي والسود، كل درهم منها ثمانية دوانيق، والطبرية نسبة إلى طبرية الشام، وزن كل درهم منها أربعة دوانيق. 89 وأحيانا كانت الدراهم تضرب على أوزان ثلاثة، أحدها عشرون قيراطا، والثاني اثني عشر قيراطا، والثالث عشرة قراريط.
لقد مارست العرب التجارة مع كل أقوام العالم رغم أنهم لا يملكون الوسائل المالية والمادية إلا قليلاً، وأوسعوا تجارتهم إلى العالم وأوصلوا أسلاكها إلى شتى الأمصار والأقطار، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وكانت لهم روابط تجارية مع كثير من الحضارات والدول العالمية آنذاك، ومن خلالها اكتسبوا أموالا هائلة. كانوا يسافرون إلى بلدان نائية ويجمعون الأموال سواء كانت طريق اكتسابها وجمعها حلالا أو حراما، ولم يكن في تجاراتهم وبيوعهم صدق ولا أمانة. فقد بعث فيهم روح الصدق والأمانة الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، وهذا من تعاليم الإسلام حيث وجهوا العرب إلى اكتساب الأموال بأحسن الطرق وأفضلها كما أنها أزاحت عنهم كثيرا من المنكرات والمنهيات.