كان المجتمع العربي القديم في عصر ما قبل الإسلام نظاما قبليا متألفا من شتى القبائل والعشائر، وكانت في مجتمعهم عشرات المساوئ والمفاسد، نحو العجرفة والكبرياء، والتفاخر على الحسب، والتنافر على النسب، الازدراء بالآخرين واستصغارهم، والفخر بلغتهم ونطقهم، فسموا أنفسهم بالعرب، وغيرهم بالعجم أي البكم، يستحقرون النساء ويعتدونها مالا موروثا يرثونه، ولا ترث هي شيئا من مال أبيها ولا زوجها ولا أخيها، وقد تجاوز البعض في الاعتداء عليهن حتى وأدوا البنات الصغيرات، وبالغوا في العصبية القبلية. وليس معنى ذلك أن مجتمعهم كان مجمع العيوب والنقائص، ومصدر الفساد والضلال، بل كانوا مع كل ذلك متخلقين بخلق حسنة، وبمحاسن طيبة من الضيافة والسخاء، والإطعام وحماية الجيران، والشجاعة والبسالة، والصبر والحلم، والعفو والعفاف، عاشوا عيشة ساذجة طيبة، طبيعتها صحرواية عربية، أحرارا فرسانا، ينادون بعضهم بعضا بألقاب وكنى؛ احتراما وتعظيما لهم، يوقرون الكبار ويرحمون الصغار، يتهادون ويتهابون ويتناصرون.
إن نظام العرب في الجاهلية كان قبليًا؛ فإن القبيلة هي عماد الحياة في البادية، وتتألف القبيلة من بيوت يختلف عددها باختلاف حجم القبيلة وباختلاف المواسم، ففي مواسم الربيع تضطر أحياء القبيلة إلى الانتشار والابتعاد؛ لتتمكن إبلها من الرعي ومن ملء بطونها بالعشب، فتتجمع على شكل مستوطنات يتراوح عدد بيوت كل مستوطنة منها ما بين الخمسين والمئة والخمسين بيتا. أما في المواسم الأخرى حيث تنحبس الأمطار وتجف الأرض، فتعود أحياء القبيلة إلى تكتلها وتجمعها، فتكون كل مجموعة حوالي خمسين بيت أو أكثر، تتجمع حذر وقوع غزو عليها، وللتعاون فيما بينها عند الشدة والعسر. 1
تعد القبيلة وحدة اجتماعية، يقوم عليها النظام البدوي، وهي تتكون من العرب الصلبية، والحلفاء، والعبيد، فأما العرب الصلبية فهم جميعا منحدرون من أصل واحد مشترك، هو الجد الأعلى للقبيلة؛ لذا يعتبرون أنفسهم متساوين، نظريًا في الأقل. وأما الحلفاء فهم ليسوا منحدرين من الجد الأعلى للقبيلة، ولا تربطهم بأفرادها رابطة الدم؛ ولكنهم لجأوا إلى القبيلة، ووضعوا أنفسهم تحت حمايتها أو حماية أفرادها، وقد يكون الحليف فردا أو قبيلة. 2 وأما العبيد فأغلبهم من أسرى الحروب؛ ولكن بعضهم نتيجة الشراء وخاصة من أفريقيا أو الولادة أو الدين أو القمار، ويعملون عادة في الأعمال اليدوية والحلب، ولا يشتركون في الحروب، ويعاونون سادتهم في الأعمال التي تسند إليهم. 3
كانت للنسب أهمية كبرى في النظام القبلي؛ فإن الرابط الذي يربط بين أبناء القبيلة ويجمع شملها ويوحد بين أفرادها هو الدم أي: النسب، والنسب عندهم هو القومية ورمز المجتمع السياسي في البادية. 4 فكانوا يحافظون على الأنساب بعناية بالغة، ويعلمونها أبناءهم؛ إذ هو المرآة التي تظهر فيها نقاوة دم الفرد وارتباطه بالقبيلة. 5 وهو الرابط المحيط بأفراد نسل واحد، والنسب العالي كان مفخرة ومنقبة.
كان التفاخر من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية عند الجاهليين، يفتخرون بخصائل وخصائص عديدة، نحو اللسان البليغ، وفخرًا به يسمون غيرهم العجم، والعجم خلاف العرب، الواحد عجمي، والعُجم -بالضم- خلاف العرب، أي: من في لسانه عجمة.6 يتفاخرون ويتباهون بصفات عالية شخصية، وبمحاسن ومآثر عليا، وبسيادة وقيادة، وبشرف وفضل، وبحسب كريم ونسب جليل، وبآباء وأجداد، وبمآثرهم ومحاسنهم، حتى إنهم انطلقوا في بعض الأوقات إلى القبور فكانوا يشيرون إلى القبر بعد القبر، ويقولون: فيكم مثل فلان ومثل فلان؟ 7
كانت العرب تهتم اهتماما بالغا بما يجمعهم ويربط بينهم، وهو النسب فكانت العصبية راسخة فيهم، وكان أساسها جاهليا، تمثله الجملة المأثورة عن العرب: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فكانوا يتناصرون ظالمين أو مظلومين. 8 وذلك أن صلة الرحم طبيعية في البشر إلا في الأقل، ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة؛ فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه. 9 وكانت في المجتمع العربي طبقات وبيوت ترى لنفسها فضلا على غيرها وامتيازا، فترتفع على الناس ولا تشاركهم في عادات كثيرة، مثل مناسك الحج، فلا تقف بعرفات وتتقدم على الناس في الإفاضة والإجازة. 10 وكانت العادة عند العرب أن لا يلحقوا في النسب إلا من أرادوا أن يبوحوا به إذا كان مولودا لهم من بغية، وإلا فينسب إلى أمه أو إلى أب مجهول. كان زياد بن سمية زوج عبيد، الذي ألحقه معاوية بن أبي سفيان في النسب؛ ليستميله إليه عندما مدحه عمرو بن العاص بقوله: "لو كان هذا الغلام من قريش لساق الناس بعصاه" وكان أبو سفيان قد قال: إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه، ومع ذلك بقي هذا الرجل مشهورا باسم أمه سمية، فيقولون له زياد بن سمية أو زياد بن أبيه أو ابن أمه. 11
كانت في العصر الجاهلي أعياد وأفراح يحتفلون بها في قبائلهم وعشائرهم، والعادة في العرب -كما هو شأن كل الأمم- أن يتزينوا في أيام الأعياد بأحسن الثياب والملابس المفتخرة والحلل المثمنة والبرود المعجبة، وأن يظهر الشبان مقدرتهم وبراعتهم في التسابق على الخيل وفي الألعاب وفي الظهور أمام النساء، ويلعب الصبيان أنواعا من الملاعب، وأن يتغنى ويزمر بالدفوف والمزاهر وأمثال ذلك؛ لتكسب الأيام بهجتها وروعتها. 12
أما أفراحهم فكانت غالبا في أيام أسواقهم التي تنعقد في الأشهر الحرم الأربعة، رجب، وذي القعدة، وذي الحج، والمحرم، وفيها تحرم الحروب ويوقف القتال، ومن أشهر معارضهم عكاظ، وهي المعرض العربي العام أيام الجاهلية، معرض بكل ما لهذه الكلمة من مفهوم لدينا نحن أبناء هذا العصر، فهي مجمع أدبي لغوي رسمي، له محكمون تضرب عليهم القباب، فيعرض شعراء كل قبيلة عليهم شعرهم وأدبهم، فما استجادوه فهو الجيد، وما بهرجوه فهو الزائف، وحول هذه القباب الرواة والشعراء من عامة الأقطار العربية، فما ينطق الحكم بحكمه حتى يتناقل أولئك الرواة القصيدة الفائزة فتسير في أغوار الجزيرة وأنجادها، وتلهج بها الألسن في البوادي والحواضر، يحمل إلى هذه السوق التهامي والحجازي والنجدي والعراقي واليمامي واليمني والعماني كل ألفاظ حيه ولغة قطره، فما تزال عكاظ بهذه اللهجات نخلا واصطفاء حتى يتبقى الأنسب الأرشق، ويطرح المجفو الثقيل. 13
كانت لهم مجتمعات في هذه الأسواق وغيرها، كانوا يتحلقون إذا اجتمعوا من النادى في طرف، وربما كان وسط الحلقة من ينتهي إليه الشرف، وإذا أراد أحدهم ذكر حادث غريب وإلقاء كلام عجيب قام وتلاه على القوم كما يفعل الخطيب، وإذا حدث شخص آخر مس لحيته في أثناء مخاطبته، وتناولها بيده في حال محاورته، وذلك شكل من أشكال العرب وعادة من عاداتهم، يفعل الرجل ذلك بصاحبه إذا حدث، ويجري ذلك مجرى الملاطفة من بعضهم لبعض في معتقداتهم. 14
إن أهل البادية من العرب، وهم الرحل الذين لا يقيمون بمحل، كان شعارهم لبس المخيط في الغالب، ولبس العمائم تيجانا على رؤوسهم، وربما ألقوا رداءا على ظهورهم واتزروا بإزار. وأما أهل الحضر وسكنة المدر منهم فكانوا يتفننون في لبوسهم، ويختلفون في كسوتهم، فكان الكاهن لا يلبس المصبغ، والعراف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر، والشاعر منهم كان إذا أراد الهجاء دهن إحدى شقي رأسه، وأرخى إزاره وانتعل نعلا واحدة، وكان لحرائر النساء زي، ولكل مملوك زي، ولذوات الرايات زي. 15 يتقون بلبس العمائم عن الحر الشديد في الصيف، وعن العواصف الرملية الثائرة.
تختلف مطاعم أهل الحضر عن مطاعم أهل البادية اختلافها في كل مكان، ومطاعم أهل المدر كانت متنوعة بالنسبة إلى أهل الوبر، للفقر وشح البادية، فكانت مطاعمهم بسيطة ساذجة أثرت على أبدانهم وأجسامهم، فكان الأعرابي نحيف الجسم، هزيل البدن في الغالب؛ لبساطة أكله وقلة المواد النشوية والدهنية فيه، ومن عاداتهم أنهم كانوا يقلون من الأكل، ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، والبطنة تأفن الفطنة، وكانوا يعيبون الرجل الأكول الجشع، ويرون أن الأزم، أي: قلة الأكل أفضل دواء لصحة الأبدان. ومن عاداتهم أنهم كانوا يبكرون في الغداء، ويرون أن ذلك أقرب إلى راحة البدن وصحته، ويؤخرون العشاء. 16
ومآكل الأعراب قليلة شحيحة مثل شح البادية، خاصة إذا انحبس المطر وهلك الزرع؛ فإن رزقه يقل وقد يذهب ما معه من زاد فيهلك خلق من الأعراب من شدة الجوع. وكانوا يفصدون عرق الناقة؛ ليخرج الدم منه فيشرب، يفعلونه أيام الجوع، كما كانوا يأخذون ذلك الدم ويسخنونه إلى أن يجمد ويقوى، فيطعم به الضيف في شدة الزمان، إذا نزل بهم ضيف فلا يكون عندهم ما يقويه، ويشح أن ينحر المضيف راحلته فيفصدها. وكان أحدهم إذا نال شربة من اللبن الممذوق بالماء، وخمس تميرات صغار، ظن نفسه ملكا، ودب إليه نشاطه. وأكل الجراد معروف مشهور عند الأعراب يأكلونه نيئا، وقد يطبخونه أو يحمصونه ويلقون عليه شيئا من الملح، وقد يأكلونه بالتمر وبغيره، وهو عندهم طعام لذيذ، يذكر بعضهم أن الإنسان قد يصاب بالشري من أكله، وقد يشكو من بطنة قد تصيبه، وغالب أكل الأعراب لحوم الصيد والسويق والألبان، وكانوا لا يعافون شيئا من المآكل؛ لقلتها عندهم حتى أنهم كانوا يأكلون كل شيء تقع أيديهم عليه. 17 فكانت عاداتهم في ذلك أوسط العادات، ولم يكونوا يتكلفون في المطاعم والمشارب تكلف العجم، وكانت لهم في هذا الباب عوائد مستحسنة ومألوفات يتلقاها ذوو العقول بالقبول. 18
كان الطابع البدوي هو الأغلب الأعم في الجاهلية. وقد ظل البدوي في تنقل دائم، بحثا عن الماء والكلأ فلم يستقر، بل سعى وسط المحيط القاسي؛ للوصول إلى الربوع الخضراء، التي تتيح له أسباب البقاء، محتقرا حرف الحضر من صناعة وزراعة وتجارة، واعتمد في معيشته ما تنتجه ماشيته، فاعتزل ثيابه من صوفها، وأكل لحمها، وشرب لبنها وحليبها، وجعل من جلدها بعض مسكنه. 19
كانت بيوتهم في غاية البساطة، وهي خيام مصنوعة من شعر الماعز ووبر الإبل، أي كانت هي بيوت الشعر. 20 وللبيت قداسة يجب اعتناؤها على الجميع سواء كان البيت صغيرا أو كبيرا، وامتنع الدخول إلى تلك الخيام التي لا تهتم بحرمتها الرياح المرسلة، ويعاتب من دخلها بغير إذن وليها عتابا شديدا.
إن المجتمع العربي كان منقسما إلى طبقات متنوعة، بعضها أعلاها وبعضها أدناها، فكانت أعلى الطبقات تحتوي على الملوك والأسياد والرؤساء والأشراف والأحرار وكل من كان منحدرا من سلالة طاهرة طيبة، بينما أدناها تشمل العبيد والإماء، وأكثر ما تعتبر المرأة في المجتمع الجاهلي من أدنى الطبقات منزلة، وكانت للأدنى حقوق ووظائف تختلف عما كانت لهم في أعلى الطبقات.
كان أهل الجاهلية مثل غيرهم من شعوب ذلك الزمن، أحرارًا وعبيدًا، يستوي في ذلك الأعراب وأهل المدر. والحر نقيض العبد، والحرة نقيض الأمة، والحر هو الذي يتصرف بأموره كما يشاء، وأما العبد فلا، فأمره بيد مالكه، فلا يجوز له أن يفعل شيئا من غير رضا سيده ومالك رقبته. 21 وكان العبيد على نوعين: عرب وأجانب، ومصدر الرقيق العربي الحرب بين القبائل العربية. أما مصدر الرقيق الأجنبي فكان الشراء، حيث كان العرب يرتادون أسواق الروم وفارس، فيشترون الأرقاء الذين كانت كل من دولتي الروم والفرس المتعاديتين تأسرهم من الأخرى في أثناء الحروب الكثيرة التي كانت تجري بين الطرفين. كما كان العرب يعتبرون أبناء جواريهم الذين لا يعترفون ببنوتهم رقيقا لهم. 22
يبدو أن عددهم كان كثيرا في اليمن ومكة ويثرب وغيرها من مناطق الجزيرة العربية، وبفعل توسع التجارة القرشية وتشعبها وتوظيف المكيين جزءا من أموالهم في استثمار الأراضي الزراعية وتربية الماشية في الطائف وغيرها؛ فقد جلب تجار مكة أعدادا كبيرة من العبيد؛ لاستغلالهم في أعمال الري الاصطناعي والزراعة والحرفة ورعي الماشية وحراسة القوافل التجارية وتشغيلهم في الخدمة المنزلية، وهي أعمال صعبة ومرهقة تتطلب جهدا مضنيا أو أعمال مهينة يأنف العرب القيام بها. وسكن العبيد أكواخا حقيرة وعاشوا بضنك؛ نتيجة الحرمان والجوع، وقد جردوا من جميع الحقوق وفرضت عليهم واجبات مرهقة سلبتهم إنسانيتهم وباعدت بينهم وبين الحد الأدنى من الحياة الكريمة، فليس للعبد أن يتزوج إلا بإذن سيده على أن يتزوج عبدة مثله. 23
أما النساء اللواتي يؤسرن في الحروب فهن الإماء والسبايا. 24 لم تكن لهن حقوق في المجتمع، عشن عيشة وضيعة دانية، وكن بعدد كبير في المجتمع العربي يستخدمونها في شؤون مختلفة حتى تجبر بعضهن على الزنا؛ يكسب بذلك مالكها مالا، وكان في رأس هؤلاء الذين يكرهون إماءهم عليه عبد اللّٰه بن أبي بن سلول رئيس المنافقين. وكانت له جارية تدعى معاذة، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له. 25 كما كانت منهن عاهرات يتخذن الأخدان، وقينات يضربن على المزهر وغيره فى حوانيت الخمارين، كما كان منهن جوار يخدمن الشريفات، وقد يرعين الإبل والأغنام، وكن فى منزلة دانية. 26 وأما أولادهم من الإماء فكانوا يستعبدونهم إلا إذا أنجب الولد فحينئذ يعترف به أبوه وإلا بقي عبدا. 27
ماذا كانت منزلة المرأة في المجتمع الجاهلي؟ يدل على ذلك قول اللّٰه تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ 58 يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ 5928 كان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكرا ابتهج به، وإن كان أنثى حزن ولم يظهر للناس أياما يدبر فيها أنه ماذا يصنع بها؟ 29
بلغ بعض قبائل العرب في أمر المرأة إلى حد القسوة حتى وأدوا البنات، ولم يكن الوأد عادة فاشية في العرب، وإنما كانت في بعض قبائلهم، ولم تكن قريش منها. 30قيل: أول من وأد البنات من القبائل ربيعة، وكانت كندة تئد البنات، وكان بنو تميم يفعلون ذلك. 31 قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم. 32 وذكر أنها كانت في ربيعة ومضر، أي: في العرب الذين تغلب الأعرابية على حياتهم. 33 وقد ذكر المؤرخون أسباب الوأد في الجاهلية، تفصيلها فيما يلي:
يمكن أن تكون لوأد البنات في المجتمع الجاهلي أسباب عديدة إلا أن أكبر أسبابه ما نطق عليه القرآن، وهو خشية الإملاق، قال اللّٰه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا 3134 ولا شك أن العرب كانوا يواجهون الإفلاس والإملاق، فكانوا يقتلون أولادهم مخافة من الفقر، ولا يرون ذلك قبيحا، والحق أنه من الأعمال الشنيعة التي تستقبحها طبيعة البشر. وقد زينت لهم الشياطين أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا على طريقتهم، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق، وزينوا لهم وأد البنات خشية العار؛ ليهلكوهم بذلك؛ وليخلطوا عليهم دين اللّٰه الذي هو دين الفطرة. 35
كما كانوا يئدون بناتهم لأسباب وعوامل أخرى، فالعوامل التي حملت تلك الشعوب عليها هي عديدة، منها عوامل دينية مثل الاعتقاد بحلول الأرواح. ومنها اقتصادية كالخشية من الفقر. ومنها ما يتعلق بالصحة كأن يكون المولود ضعيفا فيقضي عليها الوالدان. 36 ومنها أنهم يئدون البنات؛ خوف لحوق عيب وعار، ويقتلون البنين؛ خشية إملاق وإقتار. 37 ومنها أنهم يعتقدون البنت خلقا ضعيفا؛ لأن البنت كانت لا تركب الخيل، ولا تدافع عن قومها، ولا تحمل السلاح. 38 ومنها أنهم كانوا يقتلون بناتهم؛ لأجل الحمية، سفها بغير حجة منهم في قتلها. ومنها أنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات اللّٰه، فألحقوا البنات بالبنات. 39 وذكر المؤرخون أن قبيلة حاربت أخرى فغلبتها وسبت نساءها وبناتها، وتزوجوا بهن، فلما تصالحوا خير النساء والبنات أن يرجعن إلى أزواجهن وأهليهن، وبين البقاء عند من تزوجوهن فاخترن البقاء، فالرجال القبيلة الأخرى على أنفسهم أن يئدوا البنات وهن صغار، ثم فشت هذه العادة عند غير هذه القبيلة؛ مجاراة لها أو خوفا أن يصيبها ما أصابها. 40 على كل حال، إن أول من بدأ بقتل البنين ووأد البنات بنو تميم، ثم فشا في القبائل المجاورة لها. وقد رد عليه الإسلام ردا عنيفا، وجعله من أقبح الأفعال الجاهلية.
لقد كان في هذا المجتمع الجاهلي ناس خالفوا عادة وأد البنات، ومنعوا الناس منها وسعوا لإبطالها، وكان بعض الموسرين منهم يفتدي البنات من القتل بدفع تعويض إلى أهلهن، وأخذهن لتربيتهن. 41 وأكثرهم أتباع دين إبراهيم الحنيف، كان منهم زيد بن عمرو بن نفيل على دين إبراهيم عليه السلام، وكان يحيي الموءودة. يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيكها مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها. 42 فكان بعضهم يأخذون ابنتهم ويزوجونها من رجل، وبعضهم يمتنعون من انتسابها إلى أنفسهم عندئذ أيضا، تمنعهم من ذلك الكراهية عن المرأة نفسها وتقاليدهم الوراثية في حقها، وبعضهم يتركونها؛ حياءً منها.
كذلك كان بعض أشراف تميم يشتري البنات ويفديهن من القتل. 43 وكان منهم جد الفرزدق الشاعر المعروف صعصعة بن ناجية، يشتري البنت ممن يريد وأدها خشية الإملاق. 44 وروي أنه قال للنبي صلى اللّٰه عليه وسلم: ظهر الإسلام وقد أحييت بثلاثمائة وستين من الموءودة، أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل، فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( تم لك أجره إذ من اللّٰه عليك بالإسلام )). 45
كانت للنكاح أهمية جلية عند العرب، يتكاثرون بذلك في عشيرتهم وقبيلتهم. ولذلك كان تعدد الزوجات وإباح ما في ملك الرجل من الإماء شائعا في الجاهلية. 46 وكانت للرجال حقوق تختلف عن حقوق المرأة؛ فإنها كانت للبيت، والرجل هو رب البيت وسيده والمسئول عنه، وله الكلمة على شئونه، وهو القيم الطبيعي المسئول عن تربية أولاده، وهو المسئول عن إعالة زوجه وأولاده، وكان قواما عليهم. والزوجة تابعة لبعلها، وعليها إطاعة أوامره، ما دامت أوامره لا تنافي الخلق والمألوف. 47 وقد قل في حرائر العرب من كانت لها رغبة في الزواج بغير كفو، بل كان الآباء والأولياء يعرضون على بناتهم أمر الزواج قبل العقد عليهن. 48 وكذلك كان رؤساؤهم وأشرافهم يستشيرون بناتهم في أمر زواجها. 49 ويكون ذلك في الأسر المحترمة في الأكثر، وعند أولياء الأمور الذين ليس لهم من البنات غير واحدة أو اثنين. 50
كان النكاح في الجاهلية على أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها، أي: يعين صداقها، ويسمي مقداره ثم يعقد عليها، وكانوا يخطبون المرأة إلى أبيها أو أخيها أو عمها أو بعض بني عمها. وكان الخاطب يقول إذا أتاهم: أنعموا صباحا، ثم يقول: نحن أكفاؤكم ونظراؤكم، فإن زوجتمونا فقد أصبنا رغبة وأصبتمونا وكنا نصهركم حامدين، وإن رددتمونا لعلة نعرفها رجعنا عاذرين. وكان قريش وكثير من قبائل العرب على هذا المذهب في النكاح. 51 وكانت في الجاهلية بعض أنواع بشعة للنكاح، منها نكاح الاستبضاع.
هذا نكاح، كان الرجل يقول فيه لامرأته: إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.52
نكاح آخر، يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها أي يطؤها، وذلك إنما يكون عن رضا منها وتواطؤ بينهم وبينها، فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن يصح حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم : قد عرفت الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحببت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، فكان هذا نكاح الرهط. 53
كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: تنزل عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك. 54
كان الرجل إذا مات وله زوج وأولاد من غيرها،كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، ويعتبرها إرثا كبقية أموال أبيه، فإن أراد أن يعلن عن رغبته في الزواج منها طرح عليها ثوبا وإلا كان لها أن تتزوج بمن تشاء. 55
من هذه الأنكحة القبيحة الشائعة عندهم نكاح مشترك بين الإخوة، وهو أن يتزوج الإخوة امرأة واحدة فمن دخل منهم إليها أولا ترك عصاه بالباب، والليل خاص بأكبرهم وهو شيخهم. 56
لا بد من التنبيه على أن هذه الأنكحة والأفعال الشنيعة الأخرى لم تكن فاشية في المجتمع العربي بأسره، وفي كل زمان، بل كان هناك بعض أناس يفعلونها في أوان خاصة، ثم ذكرها المؤرخون في كتبهم دون أي تقييد بأشخاص ولا أزمان، وأكثر ما أورد مثل هذه الأخبار اليونان والرومان ونسبوها إلى العرب الجاهليين، وهذا أيضا من جملة ما نقلها إسترابون المؤرخ المتفلسف الجغرافي اليوناني الذي أقام لمدة يسيرة في آسيا. وأما من جاء بعدهم وخاصة المؤرخون الإسلاميون فيذكرونها في كتبهم لغرابتها. يقول جرجي زيدان: هذه حكاية إسترابون، ولم نذكرها إلا لغرابتها، ولا نعلم مقدار ما فيها من الصحة 57. 58
إلى جانب ذلك كان في تزاوجهم بعض خصال عالية تليق بشأنهم، مثلا، كان الصداق من الواجبات في تزاوجهم، ولا يجوزون النكاح بدونه، وكانوا على رغم شيوع الزنا فيهم يحافظون على حدود المحرمات، والمرأة لا تكون إلا في عصمة رجل واحد فقط. وأما المرأة التي تتزوج بعدة رجال في آن واحد فيسمونها بغية. 59 كما كانوا لا يجمعون في الزواج بين الأختين ولا يتزوجون المرأة وبنتها. 60 وكانوا لا ينكحون الأمهات ولا البنات ولا الخالات ولا العمات. 61 وكان لا يجوز نكاح الأب لابنته، ولا الجد لحفيدته، ولا يجوز للأم أن تتزوج ابنها ولا للجدة أن تتزوج حفيدها، ولا للأخ أن يتزوج أخته؛ مراعاة لعلاقة الأصل بالفرع، أي: لعلاقة الدم. 62
كما كان الطلاق رائجا فاشيا فيهم، وكان الطلاق عندهم تنازل الرجل عن حقوقه التي كانت على زوجته ومفارقته لها. ومن مصطلحاته أن يقول الرجل لزوجته إذا طلقها: حبلك على غاربك، وأنت مخلى كهذا البعير، والحقي بأهلك، واخترت الظباء على البقر، وفارقتك، وسرحتك، وأنت برية، وأنت خلية، فتطلق بها الزوجة، والطلاق الذي شاع في المجتمع الجاهلي على أنواع. منها:
البائن: هو طلاق المرأة ثلاثا على التفرقة، والطلاق البائن هو الذي لا يملك الزوج فيه استرجاع المرأة.
الظهار: هو نوع آخر من الطلاق، وأصله من الظهر، وهو أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي.
الإيلاء: هو هجر المرأة مدة لا يقترب خلالها منها. 63
كان الطلاق حقا من حقوق الرجال في الجاهلية، يطلقون النساء ثلاثا على التفرقة، وأول من سن ذلك لهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ثم فعلت العرب ذلك. 64 وذكر بعض المؤرخين: كان للمرأة في الجاهلية حق أن تطلق زوجها كما جرت عادة الرجال عندهم أن يطلقوا نساءهم. 65 لكنه لم يكن ذلك دأب العرب جميعا، بل كان في بعض القبائل العربية مع أنه يملكه بعض أشراف النساء، كان لها الحق أن تمتلك أملاكا خاصة، وكان لها حق الطلاق. 66 فتطليق النساء أزواجهن أمر يقع نادرا، وهو حق من حقوق الرجل في الغالب، بيده حله وعقده.67 وليس لها حق الطلاق، لكنها تستطيع خلع نفسها من زوجها بالاتفاق معه على ترضية تقدمها إليه. 68
العدة هي مكث المرأة بعد طلاقها أو وفاة زوجها، فكانت النساء في الجاهلية يبالغن في احترام حق الزوج، وتعظيم حرمة عقد النكاح غاية المبالغة، فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها تتربص سنة في شر ثيابها وحفش بيتها. 69 وقال بعضهم: لم يكن للمطلقة عدة في الجاهلية، وإنما العدة التي توفي عنها زوجها. 70 فإذا مات الرجل فلا يحق للمرأة الزواج إلا بعد أن تتربص سنة فلا تتزين خلالها. 71 ولذلك قالت عائشة رضي اللّٰه تعالى عنها: كان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وإن طلقها مئة أو أكثر، إذا ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها. 72 ولذلك كان بعض النسوة الشريفات يشترطن على أزواجهن أن يكون أمرهن بيدهن. 73 مخافة أن تطول عليهن العدة برجوع الزوج عند انقضاء العدة.
كان للمرأة حق الخلع في المجتمع الجاهلي، فإنها إذا لم ترد المعايشة مع زوجها في بيته فأخبرت وليها أخا كان أو أبا، فيأتي أحد منهما ويرضي زوجها بشيء من المال ويتركها زوجها. فالخلع إذن، هو طلاق يقع بدفع مال تدفعه المرأة أو أقرباؤها للرجل في مقابل تخلية سبيلها وافتداء نفسها به.74
لم يكن للمرأة حق الإرث في الجاهلية، ولا لها على زوجها أيّ حق. 75 وكان الرجال يعتبرون المرأة إرثا كبقية الأموال. 76 والشيء الموروث لا يرث، فلا يرث في الجاهلية إلا الرجال. ولكن كان للمرأة حق التملك، ولها حق أن تتملك الأرض والدار والسلع وغيرها من المال كما كان لها الحق أن تمتلك أملاكا خاصة، وخير مثال على هذا خديجة زوج النبي صلى اللّٰه عليه وسلم. 77 كانت امرأة ذات ثروة كبيرة، تتجر فيها، وتدفعها إلى التجار على المضاربة.
عرف العرب الجاهليون بالعديد من العادات الحسنة، التي أقرها الإسلام عند قدومه فيما بعد، ومن أبرزها فيما يلي:
كان التلقيب والتكنية من جملة عادات الجاهليين، فكان الرجل في الجاهلية إذا أراد أن ينادي من جهل اسمه أو يريد ملاطفته فيقول له: يا وجه العرب، أو يا أخا العرب، أو يا أخا طئ إذا كان طائيا، أو عبس إذا كان عبسيا مثلا، كأن نسبته إلى تلك القبيلة تحقق له عندهم المباهاة وتوجب له الفخر، أو ينادي من كان عارفا به بكنيته، أو يريد أن يعظمه ويرفع قدره بقوله له: يا أبا الفوارس، أو يا حامية القبيلة الفلانية، أو ينادي من كان أعظم قدرا منه بقوله له: يا مولاي وسيدي. 79 وكانوا يلقبون ويكنون الناس لمكانة خاصة أو وصف خاص به، نحو أبي الحكم وهو لقب أبي جهل، لقب به لبعض كلماته الحكيمة. وقد كناه الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم بأبي جهل؛ لأنه كان يكنى قبل ذلك بأبي الحكم. 80 وسمي أبو لهب باللهب؛ لحسنه وإشراق وجهه. 81
كان من عادات الجاهليين أن يحيي الصديق صديقه إذا رآه، والتحية: السلام، ومن تحياتهم: حياك اللّٰه أو حياك، ثم يذكر الصنم. وإذا كان صباحا قالوا: أنعم صباحا وعم صباحا 82. وإذا كانوا جماعة فيقول عندئذ: أنعموا صباحا، وعموا صباحًا. وإذا كان الوقت مساءً، قال: أنعم مساءً وعم مساءً. وأنعموا مساءً إذا كانوا جماعة. 83
كانت المصافحة معروفة عند الجاهليين، وتكون باليد اليمنى، وقد يتصافحون باليدين، وقد يتعانقون إذا كانوا قد جاؤوا من سفر أو من فراق. 84
كان من عاداتهم الجاهلية رفع القضايا إلى حكم يفصل بينهم في المنافرات، ولشدة مباهاة الجاهلية في أنسابهم كان كثيرا ما يقع التنافر بسببها، فكان إذا تنافر رجلان في الحسب والنسب تنافرا إلى حكمائهم. 85 وإذا طال الخلاف بين الخصمين تدخل الناس في الأمر لإصلاح ذات البين 86دون أن يتحاكما إليهم، وهذا من أحسن عاداتهم حيث يحتالون للإصلاح بين المتنافرين والمتخالفين دون أن يكون لهم فيه غرض، وممن اشتهر بالحيلة على الإصلاح بين المتنافرين رجل يقال له هرم بن قطبة. 87
كان العرب أشد اهتماما بحماية الجوار في الجاهلية، وهي من أهم متطلباتهم، وللجوار حرمة كبيرة عندهم، فإذا استجار شخص بشخص آخر، وقبل ذلك الشخص أن يجعله جارا ومستجيرا به، وجبت عليه حمايته، وحق على المجار الدفاع عن مجيره والذب عنه وإلا عد ناقضا للعهد، ناكثا للوعد، مخالفا لحق الجوار. 88
إن العرب لم تكن تعد الجود إلا قرى الضيف وإطعام الطعام، ولا تعد السخي من لم يكن فيه ذلك حتى إن أحدهم ربما سار في طلب الضيف الميل والميلين. قال أبو حاتم: كل من ساد في الجاهلية والإسلام حتى عرف بالسؤدد وانقاد له قومه ورحل إليه القريب والقاصي لم يكن كمال سؤدده إلا بإطعام الطعام وإكرام الضيف. 89
والعرف في الضيافة عندهم أنها ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإذا انتهت المدة سقط حق الضيافة من رقبة المضيف إلا إذا جددها وزاد عليها. ويعبر عن منزلة الضيف عند المضيف بجُمل، وتعابير تعبر عن ترحيب المضيف بضيفه، مثل جملة: بيتي بيتك. وعلى الضيف بالطبع أن يتأدب بأدب الضيافة، فيصون حرمة بيت مضيفه فلا يسرق منه، ولا ينظر إلى العائلة بسوء، وألا يقوم بأي عمل يخل بعرف الضيافة. 90 إن صفة الضيافة كانت وراثية، وسنة سنها إبراهيم عليه السلام. وأيضا إن العرب لم يكونوا بخلاء حريصين، بل مقنعين راضين بما لديهم، ولذلك تأثير في جودهم وسخائهم.
من عادات الجاهليين أنهم كانوا في غاية البعد عن الحرص والأمل البعيد، وغاية آمالههم هو أن يحصل على الأسودين، أي التمر والماء. 91 لم يكن عندهم للثروة والغنى قيمة ولا أهمية، ينفقون على الأهل والعيال، وعلى الأصدقاء والضيوف، وأحيانا يقدم أحدهم جميع ما لديه في إكرام الضيف، فكان المجتمع الجاهلي قنوعًا إلى الغاية، مبتعدا عن الحرص في الكثير.
ليس للعرب نظير مضارع ولا مماثل في الجود والسخاء، كان عاملهم المعسر أجود وأسخى من غني الشعب الآخر. وقد بالغ بعضهم في الجود والسخاء، حتى ضرب به المثل، ومنهم حاتم الطائي، كان يوقد نار القرى، ليقصدها من يريد الضيافة من الناس، وذكروا أنه كانت لحاتم قدور عظام بفنائه لا تنزل عن الأثافي.92
كان العرب يعظمون الشيخ ويوقرونه في الجاهلية، ينقادون لرأيه في أمورهم ومنافراتهم، ويخضعون لسلطته وحده، وهو أكبر رجال العشيرة سنا. 93
من العادات الحسنة في الجاهلية أنهم يتذكرون موتاهم ويذكرونهم بعد وفاتهم، ويحضرون جنائزهم، ويستأجرون النائحات؛ ليظهرن شعار الحزن والحسرة، ويذكرن للميت محاسن من حيث كان. 94 والولولة والنياحة على الميت من التقاليد التي تشدد فيها أهل الجاهلية، وكانت عندهم سمة من سمات التقديس، ولهذا كان أهل الجاه والغنى والأشراف يستأجرون النائحات للنياحة على الميت في بيته وخلف نعشه إلى القبر وفي مأتمه، ويبالغون في ذلك تبعًا لمنزلة المتوفي. 95 ويحترمون الموت والميت، فكانوا يقومون إذا مرت بهم جنازة، ويقولون إذا رأوها: كنت في أهلك مائتا مرتين. أما أهل الميت وأقرباؤه وأصدقاؤه فكانوا يسيرون أمام الجنازة وخلفها إلى المقبرة، وتعفر النساء رؤوسهن بالتراب وبالرماد وبالطين ويلطمن خدودهن بأيديهن، كما كن يلطخن رءوسهن بالطين ويسرن مع الجنازة؛ إظهارا للحزن والجزع على الفقيد، وترافقهن النادبات والمولولات، يندبن الميت يولولن عليه، يسرن حافيات مبالغة في إظهار الحزن. 96 ويغسلون موتاهم بالخطمي والأشنان وما شابه ذلك من مواد؛ لإزالة الأوساخ عن جسم الميت وتطهيره، كما وضعوا الطيب مع الكفن؛ ليطيب الميت فيذهب مطيبا إلى قبره، ويحمل سرير الميت الذي وضع عليه على الأكتاف لإيصاله إلى قبره. ويقال له: النعش كذلك. وقد يحمل في محفة، وقد يحمل على الإبل لإيصاله إلى قبره إذا كان القبر بعيدا، ويتبارى الأقرباء والأصدقاء في حمل نعش الميت؛ احتراما له وتقديرا لشأنه. 97 والعادة عند أكثر الساميين السير بسرعة في الجنازة، فيسرع المشيعون الذين يسيرون مع الجنازة إلى موضع القبر في مشيهم للوصول بالجنازة بسرعة إليه، والظاهر أن لطبيعة الجو دخل في ظهور هذه العادة ويقال لتهيئة الميت ودفنه في القبر تجهيز الميت، ويقوم الأبناء والأقرباء بوضعه في لحده، وإذا كان الميت عزيزا كريما في قومه سيدا رئيسا اشترك الرؤساء في إدخاله القبر، وقد يتنافسون في نيل هذا الشرف. 98
إن العرب الجاهليين كانوا متأدبين بآداب حسنة طيبة، تمتاز بها عن الأمم والأقوام الأخرى، فكان من آدابهم الترحيب بالضيف وتعظيمه وإطعامه إلى ثلاثة أيام، والمصافحة والمعانقة والتحية والسلام، وتعظيم الشيوخ والكبار وغير ذلك من عادات كالشجاعة والسخاء والضيافة والسذاجة والذكاء والوفاء بالعهد، التي جعلتهم أجدر قوم بأن يبعث فيهم النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، وهم أجدر بإبلاغ هذه العادات الحسنة من الأمانة والصدق والحق والصبر والبساطة والجرأة والحمية إلى العالم بأسره بل فوق ذلك هم أجدر بتبليغ ونشر الإسلام والدين الحنيف الذي جاء به النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، وقد قاموا بأداء هذه المسؤولية التي تقع على عاتقهم فبذلوا جهودهم ومساعيهم في سبيل نشر الإسلام وتبليغه إلى أنحاء العالم، ونرى ثمرتها في الأيام الحاضرة حيث انتشر الإسلام في أهل الوبر والمدر، وفي أصحاب البيوت والقصور، كدين عالمي يرشد إلى الحق القويم والصراط المستقيم.