أحد الأشكال أو التكوينات السياسية في شبه الجزيرة العربية هو التكوين القبلي، ولا يراد بذلك التكوين القبلي بمفهومه الاجتماعي، فقد كانت القبائل كوحدات اجتماعية في كل أرجاء شبه الجزيرة؛ ولكن المراد به التكوين أو التشكيل القبلي الذي تصبح فيه القبيلة إلى جانب وظيفتها الاجتماعية وحدةً سياسيةً، كذلك تتصرف بوصفها كيانًا سياسيًا قائمًا بذاته سواء في أمورها الداخلية أو في علاقاتها الخارجية بما يدخل في ذلك من حرب وسلام واتفاقات وتحالفات ومناورات وغير ذلك من أشكال هذه العلاقات. 1
كانت القبائل العربية تتصور الدولة على أنها القبيلة، فتكرس ولاءها لها، ولا ولاء تكرسه لغير القبيلة، فالقبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي تتقمص صفة الدولة، وتقوم بمهامها في البادية، لا دستور لها مكتوب، ولا قوانين مقننة، ولا نظم تشرعها مجالس، اللّهم إلا تقاليد وأعراف متوارثة راسخة، فرضتها على الجميع طبيعة الحياة في البادية، فالتزم القوم بها التزامًا دقيقًا، ويرتبط أفراد القبيلة برابطة تقوم على أساس وحدة الدم ووحدة الجماعة، والإيمان بهذه الوحدة والتعصب لها هو ما يطلق عليه اسم العصبية القبلية، فالعصبية القبلية هي بمثابة الشعور القومي في عرف البدوي، وتتوسع هذه العصبية في الأحلاف، فتشمل القبائل والعشائر بالنسب أو بالجوار أو الداخلة في الحلف. 2 وفي هذا الصدد فقد كانت الوحدة السياسية القبلية هي الشكل المنتشر في البادية؛ أدت إلى ذلك طبيعة هذه البادية بقسوتها التي كانت تدفع كل قبيلة إلى التنقل وراء الكلأ حيثما وجد انتجاعًا للمرعى، وهو وضع كان الشكل السياسي الوحيد الذي يتواءم معه هو الوحدة السياسية الصغيرة، وهي القبيلة. 3
كانت القبيلة هي الوحدة السياسية في الجزيرة العربية المتكونة من ناس ينتمون إلى أصل واحد مشترك، تربطهم رابطة الدم والعصبية. 4 يقول ابن خلدون: ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد؛ لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم، إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم، وما جعل اللّٰه في قلوب عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وأقربائهم موجودة في الطبائع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر وتعظم رهبة العدو لهم. 5 فالعصبية هي شعور التماسك بين من تربطهم رابطة دم نقية، فهي لا توجد إلا حيث يوجد المجتمع المعزول، وأنها دافع غريزي في الإنسان، قائمة على أساس رابطة الدم، فهي دائمة ثابتة، طبيعية لا مكتسبة، وفيها عنصر أخلاقي يجعلها قوةً اجتماعيةً وسياسيةً. ولها أهمية كبرى، إذ إنها قوة سياسية دفاعية تربط بين الناس وتكتلهم، فتعمل بذلك على بقاء المجمتع وتحفظ كيانه، فالعصبية إذًا تشبه الشعور القومي في عصرنا؛ ولكن رابطة الدم فيها أقوى وأوضح مما في القومية. 6
باعتبار أن شبه الجزيرة كانت تضم عشرات من القبائل، لكل منها عصبيتها الخاصة، فإن مجتمعًا هذا شأنه لا يمكن أن تظهر فيه نزعة قومية شاملة، بالرغم من كون القبائل العربية كلها تعيش في محيط جغرافي واحد، وتجمع ما بينها تقاليد وعادات واحدة، وتدرك أنها تنتمي إلى قوم واحد، وجنس واحد، وتتكلم لغةً واحدةً، تتعصب لها، وتصف ما سواها باللغات الأعجمية، وليس مرد فقدان النزعة القومية عند العرب آنذاك إلا لضعف الوعي السياسي في نفوسهم، وانحصاره في أفق ضيق محدود، لا تتجاوز حدوده حدود القبيلة، ولم يكن لدى البدوي مفهوم الوطن الشامل، الذي يضم هذه الوحدات المتجانسة في تركيبها الاجتماعي، المتنافرة في علاقاتها السياسية، كل ما يفهمه أن الأرض التي تنزل فيها هي وطنه، فإذا تركها وانتقل إلى غيرها، أصبحت وطنًا لقبيلة جديدة تحل محل قبيلته فيها، ويصبح له وطن جديد في أرض جديدة تحتلها قبيلته، وكل ما هو خارج هذه الأرض هو بالنسبة إليه في حكم الأرض الأجنبية، وكل من ينتمي لغير قبيلته هو في حكم الأجنبي الغريب عنه، فوطن البدوي وطن متنقل يتبدل باستمرار. 7
كان يحدث في بعض الأحيان أن يظهر نوع من التكوين القبلي ينتظم عددًا من القبائل تتكتل في هيئة مجموعات موحدة بصورة أو بأخرى ولسبب عارض أو دائم تحت رئاسة أو زعامة واحدة، ومثل هذه التكتلات العربية نستنتج وجودها من عدد من النقوش الآشورية التي نجد واحدًا منها يشير إلى قوة عسكرية عربية تحت زعامة "جندبو" كواحدة من القوات المتحالفة مع ملك دمشق ضد الملك الآشوري "شلمنصر الثالث" (858- 824 ق. م) كما نجد عددًا آخر منها يشير إلى صدامات عسكرية أو علاقات سياسية مع عدد من الشخصيات يوصف كل منها بأنه ملك بلاد العرب أو أنها ملكة بلاد العرب. والشيء ذاته نستنتجه من بعض مواضع في التوراة نجد فيها العرب يتكتلون مرة مع الفلسطينيين لاكتساح مملكة يهوذا أو يهودية في عهد الملك العبراني يهورام ( 851- 843 ق.م)، ثم نجد خلفه الملك عزيا (779- 740 ق.م) ينتصر على الفلسطينيين وعدد من حلفائهم، من بينهم العرب الساكنون في جور بعل. 8
تقوم الهيئة الاجتماعية عند البدو على نظام العشيرة ووحدتها الأسرة التي تمثل الواحدة منها الخيمة أو البيت. والحي عبارة عن مضرب من مضارب الخيام، وأعضاء الحي يطلق عليهم لفظ قوم. وتتألف القبيلة من أقوام أو عشائر تربطها أواصر النسب، وينظر أبناء العشيرة الواحدة بعضهم إلى بعض كأبناء دم واحد، ويتداعون إلى الحرب بصيحة حربية واحدة، ويرجع اسم العشيرة في الغالب إلى الجد الأول الذي تنتسب إليه. 9 وهم يؤدون الطاعة لرئيس واحد، وهو المسن المقدم على أفراد القبيلة الذي تظهر زعامته بما يبديه من أصالة الرأي والسخاء والشجاعة، فتقدمه على أهل القبيلة مبني على كبر سنه وأخلاقه الشخصية. وليس الشيخ صاحب الأمر المطلق في الشؤون الشرعية والحربية وسواها، بل يفرض عليه مشاورة مجلس القبيلة الذي يتألف من زعماء البطون والأفخاذ، ويدوم تمتعه بهذا المركز السامي ما دام ولاء القبيلة حليفه، والشيخ في العصور العربية الأولى كان يسمى سيّدا. 10
كان لكل قبيلة أرض تعيش عليها، وتنزل بها، وتعتبرها ملكا لها، تنتشر بها بطونها وعشائرها، ولا تسمح لغريب النزول بها والمرور بها إلا بموافقتها وبرضاها. وقد اختص كل بطن منها بناحيته، فانفرد بها واعتبرها أرضا خاصةً به، وتكون الأرض التي تحل القبيلة بها منزلًا لها، ومنازل لأبنائها الذين ينزلون بها، يضربون بها خيامهم، فتكون الأرض مضارب لها، تستوطنها وتقيم بها وتصير وطنا لها، أي: دار إقامة، ما دامت تقيم بها، وموضع بيوتها. لذلك يعبر عن الأرض التي تقيم بها القبيلة ببيوت القبيلة وببيوت العشيرة؛ لأنها مضرب البيوت. وتمتد أرض القبيلة إلى المواضع التي تصل بيوتها إليها، فما يقع إلى الداخل فهو من موطن القبيلة، وما وقع خارج حدود نفوذ القبيلة خرج عن مواطنها. وتعين الحدود بالظواهر الطبيعية البارزة، مثل تلال أو أودية أو رمال أو ما شاكل ذلك. ونظرًا إلى عدم تثبيت القبائل لحدودها على الأرض برسم معالم بارزة لها، صارت الحدود سببًا من أسباب النزاع المستمر والقتال الدائم بين القبائل، وتكون مواضع الماء في أرض القبيلة قبلة أبنائها، يستقون منها ما يحتاجون إليه من إكسير الحياة، وتكون هذه المواضع آبارًا أو عيون ماء أو حسيا وما شاكل ذلك، وتتفق القبيلة فيما بينها على حقوق السقي، ويؤدي الإخلال بحقوق السقي إلى وقوع نزاع، قد يؤدي إلى قتال، ولا سيما في أيام القيظ وانحباس المطر حيث تشتد الحاجة إلى الماء، ويصير افتقاده سببًا لهلاك الأنفس والمال، والقاعدة أن ماء القبيلة مشاع في القبيلة. أما المياه المحمية: المياه التي تحمى للسادة والرؤساء، والمياه الخاصة، كالآبار التي يحفرها أصحابها، فتكون خاصة بهم، لا يجوز الاستقاء منها إلا بإذن ولكل قبيلة حق حماية أرضها، شأنها في ذلك شأن الدول. وإذا أراد غريب اجتياز أرضها فلا بد من أن يكون في حماية إنسان منها، وإذا كان المجتاز جماعة، كأن يكون قافلة أو قبيلة أو حيًا يريد التنقل إلى أرض أخرى، ولا بد له من المرور بأرض هذه القبيلة للوصول إلى هدفه، فعليه أخذ إذن من القبيلة يخوله جواز المرور بها، وإلا تعرض للمنع والقتال، لذا كان لا بد للتجار من ترضية سادات القبائل للسماح لهم بالمرور، بدفع حق المرور، وهي إتاوات تعارفت القبائل آنذاك على أخذها من المارة. 11
حاكم القبيلة أو التجمع القبلي هنا هو الشيخ أو السيد، والأساس الذي يقوم عليه حكمه ليس هو الوراثة. وإنما هو الاختيار الذي قد يكون انتخابا أو إجماعًا من القبيلة أو التجمع القبلي، لنا أن نتصور أنه يتم في حدود رؤساء الأسر والأقوام أي: الأحياء، التي يتكون منها هذا الكيان القبلي. والصفات التي تؤهل السيد لمنصبه في السيادة أو الرئاسة هي صفات مستوحاة من حاجة القبيلة ومن ظروفها أساسًا، فالسن عليها معول كبير دون شك؛ إذ إنها مؤشرة إلى التجربة والحكمة في مجتمع كانت العلاقات القبلية فيه تتعرض للغارات المتبادلة لأوهى الأسباب، وإن كان لنا أن نتصور وجود سادة أو رؤساء للقبائل دون اشتراط تقدم السن إذا كانت التجربة أو الحكمة في التصرف متوفرةً في الشخص المرشح للرئاسة، كذلك كانت الشجاعة والحلم والكرم والثروة والحرص على مصالح القبيلة من المؤهلات الرئيسة للسيد، فالشجاعة مؤهل أساسي في مجتمع الغارات المتبادلة، والكرم لا يقل عنه ضرورةً في مجتمع معرض للظروف الجغرافية القاسية التي قد تودي بالزرع والضرع، أو تؤدي إلى ندرة العشب إذ حلت بالمنطقة فترة جفاف طويلة، وقد كان ذلك واردًا في شبه الجزيرة، على أنه يحدث في بعض الأحيان أن يكون السيد الجديد ابنًا للسيد القديم؛ ولكن هذا لم يكن معناه ابتعادًا عن النظام الانتخابي أو الاختياري المذكور أو اقترابًا من النظام الوراثي، وإنما يكون ناتجًا عن توفر صفات الرئاسة بحكم الصدفة أو الواقع في ابن السيد السابق، ونحن نجد في هذا الصدد سيدًا لإحدى القبائل، وهو عامر بن الطفيل الذي يبدو أنه اختير سيدًا بعد وفاة أبيه، السيد السابق للقبيلة، يحاول جاهدًا أن يرد عن نفسه ما قد يوجه إليه من اتهام بوراثة السيادة ويستنكر مثل هذا الاتهام، ذاكرًا أن قبيلته هي التي سودته عليها ومشيرًا إلى صفاته التي جعلت قبيلته تختاره لسيادة القبيلة فيقول:
فإني وإن كنت ابن سيد عامر
وفارسها المندوب في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة
أبى اللّٰه أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي
أذاها وأرمي من رماها بمنكب
كذلك قد يحدث أن تعطى سيادة القبيلة أو التجمع القبلي لامرأة، وليس بالضرورة لرجل. 12
والذي ظهر لنا من دراسة أخبار المؤرخين في هذا الموضوع أن الجاهليين كانوا قد ساروا على سنة الإرث في تولي الرئاسة، كما ساروا على طريقة الاختيار، أما أنها كانت رئاسة وراثية؛ فلأنها رئاسة مثل سائر الرئاسات عند العرب، كرئاسة المكربين والملوك والأقيال والأذواء والأقيان وكل الرئاسات الجاهلية الأخرى. وقد كانت هذه الرئاسات رئاسات وراثية في الأغلب؛ لذا كانت رئاسة القبيلة بالوراثة أيضا، تنتقل الرئاسة من الأب إلى الابن الأكبر. ويؤيد هذا الاستنتاج ما نجده في أكثر روايات القبائل، وتولي الأبناء رئاستها بعد الآباء. وأما أنها بالنص والتعيين، فكالذي ذكروه من أمر اختيار حصن بن حذيفة بن بدر ابنه عيينة لرئاسة قومه من بعده، ولم يكن عيينة أليق من غيره بأن يكون سيد قومه، فاستدعى أولاده، وقال لعيينة: أنت خليفتي، ورئيس قومك من بعدي. ثم قال لقومه بني بدر: لوائي ورياستي لعيينة، ثم أوصاهم بما يجب أن يفعلوه على عادة السادات عند اشتداد المرض بهم وشعورهم بدنو أجلهم من وجوب التكتل والتهيؤ للقتال وعدم التجرؤ على الملوك، فإن أيديهم أطول من أيدي الرعية، فسمعوا له وأطاعوا، واختاروه رئيسًا عليهم. 13
لم يكن حكم سيد القبيلة حكما مطلقا، لا مشورة فيه ولا أخذ رأي، بل الحكم في القبائل حكما مستمدا من رأي وجهاء القبائل وعقلائها وفرسانها وألسنتها المتبينة، فهو حكم "ملأ القبيلة"، وقد يكون بيت رئيس القبيلة، هو مجلسها وموضع حكمها. وإذا حدث حادث اجتمع عقلاء القوم في مجلس الرئيس وتباحثوا في الأمر، ويقال لمجلس القبيلة عهرو "ع هـ ر و" في اللهجة القتبانية، يعقد للنظر فيما يقع للقبيلة من أمر جليل، مثل فرض ضرائب أو زيادتها، أو إعلان حرب، أو ما شاكل ذلك من أمور. ونجد مثل هذه المجالس عند جميع القبائل، فإذا حدث للقبيلة حادث، تجمع سادتها للتباحث في الأمر، ولاتخاذ ما يرون اتخاذه من رأي. ولما كانت القبيلة منتشرة لا تستقر في مكان واحد، صارت مضارب سادات الأحياء أندية تلك الأحياء، يجتمع فيها وجوه المضرب للسمر وللبت فيما قد يقع بين الحي من خلاف، وبهذه الطريقة يفصل في الخصومات وفي كل ما يحدث للحي من أمر. 14 وتشير النصوص التاريخية إلى أن السيد كان إلى جانبه في تصريف أمور القبيلة تجمعان أو مجلسان يشاركان في الاستشارات والقرارات، أحدهما هو مجلس أعيان القبيلة، والآخر يضم كل أفراد القبيلة، والأول كان يسمى بالملأ. 15 والثاني بالتجمع العام، وينعقد التجمع العام عند وقوع أمر هام فيطرح موضوع النقاش على العامة من أفراد القبيلة؛ ليدلوا برأيهم في الموضوع.
ذكر أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كانوا لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء والنجدة والصبر والحلم والتواضع والبيان. 16 وأضافوا إليها الغيرة وسعة الثروة وسداد الرأي وكمال التجربة مع كبر السن. 17 وقالوا: قيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك؟ قال: ببذل الندى، وكف الأذى، ونصرة المولى، وتعجيل القرى. 18 وقد يسود الرجل بالعقل والعفة والأدب والعلم. ووصف بعضهم السؤدد بأنه اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة. 19
أما العيوب والنقائص التي تمنع من السؤدد فهي الحداثة والبخل والقهر والظلم والحمق وقلة العدد والفقر. رغم ذلك ساد بعض العرب مع الاتصاف بإحدى النقائص المانعة، كاتصاف أبي جهل بالحداثة، وأبي سفيان بالبخل، وعامر بن الطفيل بالقهر، وكليب بن وائل بالظلم، وعيينة بن حصن بالحمق، وشبل بن معبد بقلة العدد، وعتبة بن ربيعة بالإملاق. وينبغي أن الذي يسوده قومه لايسودونه إلا لشيء من الخصال الجميلة والأمور المحمودة رآها قومه فيه فسودوه لأجلها. 20
وعلى من يسود في قومه أن يتحلى بخلال حميدة وسجايا طيبة، تجعل الناس يعترفون بسيادته عليهم، كأن يحتمل أذى قومه، ولذلك قيل للسيد محتمل أذى قومه، وأن يكون شريفا في أفعاله، حليمًا كريمًا، يغض النظر عن أعمال الحمقى والجهلة، وأن يتجاهل السفلة والسفهاء الجاهلين، فلا يغضب ولا يثور، وأن يكظم غيظه، جاء في المثل: احلم تسد، وأن يحترم الناس مهما كانت منازلهم، وأن يؤلف بينهم ويكتسب محبتهم، وأن يكون ملاذهم، وأن يجعل بيته بيتًا للجميع ومضيفًا لكل من يفد إليه من كبير أو حقير أو صغير، وأن يفتح قلبه للجميع. وأن يكون في مقدمة القوم في الحروب والغزو، وأن يكون شجاعًا لا يهاب الموت، حتى يكسب النصر لنفسه ولقومه، وعليه أن يكون قائد قبيلته وواضع خطط الحرب؛ لأنه رمز القبيلة ورمز النصر وباعث الهمم في نفوس أبنائه، وهو أب القبيلة، وإذا لم يكن قدوة لأبنائه في ساعات الشدة والخطر، فترت همم أبناء القبيلة، ولا يثير القبائل إلا الشعارات والنخوة وإلهاب المشاعر، حتى تندفع اندفاعا في القتال، والرئيس هو روح القبيلة وشعارها، فإذا أصيب بمكروه أو جبن في القتال، وإذا خر صريعًا في المعركة، هربت قبيلته في الغالب، وتراجعت القهقرى، إلا إذا وجد في القبيلة من يؤجج فيها نار الحماسة ويبث فيها العزيمة للوقوف والصمود. 21
كان من الواجب على العامة أن يراعوا حقوق سيدهم، وحقوقه منقسمة إلى قسمين، أدبية ومادية، أما الأدبية فأهمها توقيره واحترام شخصه ورأيه، كما أنه له الإمرة العامة على الجند. وأما حقوقه المادية فقد كان له في كل غنيمة تغنمها القبيلة المرباع، وهو ربع الغنيمة. والصفايا وهو ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة. والنشيطة وهو ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء. وكذلك الفضول وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة. وقد أجمل ذلك عبد اللّٰه بن عنمة الضبي في رئاسة بسطام بن قيس سيد شيبان بقوله:
لك المرباع منها والصفايا
وحكمك والنشيطة والفضول 22
هذه السهام كانت للسيد، يهتمون بها ويخصصونها له دون أن يشارك فيها معه غيره من العامة، وكذلك يمتثلون بأوامر زعيمهم الذي اتفقت آراؤهم على زعامته، ويجب على كل رجل توقيره واحترامه، والزعيم كان ضامنا في النظام القبلي العربي القديم لحماية شخص أو مكانته في المجتمع، وللتضامن والتحالف مع قبيلة، فقد عاشت العرب في هذه الصحاري والبراري منذ آلاف سنوات في ظل هذا النظام القبلي دافعين حضارتهم العربية من غارات وهجمات خارجية، وهي هويتهم القبلية التي كانت مفخرةً لهم، ثم جاء الإسلام ووجّه هذه العصبية القبلية إلى الوحدة الإسلامية، وجعلهم أمةً واحدةً، وقرر النظام القبلي مع تغيير يسير، وجعل الانتماء إلى قبيلة أو شعب تعارفًا نسبيا فقط، ووحّدهم مكان النظام القبلي على أساس النظام الإسلامي الذي نظمهم سواء كان عربيًا أو عجميًا في سلك إسلامي متوحد، وعرفهم في العالم على أساس الأخوة الإسلامية.