اتفق أهل التاريخ والأنساب على أن الصنف الثالث في تنويع العرب هو العرب المستعربة، وربما يسمون بالعرب المتعربة أو العرب التابعة، وأطلق هذا المصطلح على أقوام وأجيال لم يكن أصلهم ونسلهم من العرب، بل هم الداخلون في العروبة بعد العجمة، وهم الذين سكنوا جزيرة العرب وأقاموا بها، وتعلموا العربية منهم فتعربوا، ويراد بهم في الأغلب بنو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وفي رواية: أن بني قحطان بن عابر بن شالح من العرب المستعربة؛ وذلك فإن هم قد تعلموا العربية من العرب العاربة، كما تعلم بنو إسماعيل من جرهم. وذهب آخرون إلى أن بني قحطان هم العاربة، وأن المستعربة هو بنو إسماعيل فقط. 1 وبناءً على ذلك إن العرب المستعربة هم بنو إسماعيل بن إبراهیم عليهما السلام، قیل لهم ذلك؛ لأنهم تعلموا العربية من أخوالهم جرهم بن قحطان العاربة. 2 وقيل: لأن إسماعيل عليه السلام لم تكن لغته عربيةً بل عبرانيةً، ثم دخل في العربية فلذلك سمي ولده العرب المستعربة. 3 وهذا ما أيده المسعودي بقوله أن بني إسماعيل يسمون العرب المستعربة. 4
وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: إن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانا من العرب الخلص لا من المستعربة. وأضافوا إلى ذلك أن العرب المستعربة أسطورة ذكرها بعض المؤرخين فدرجت، مع أن عصر إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام عصر عربي قائم بذاته، ليست له أية صلة بسريان أو يهود. 5
وتطبيقًا بين هذين القولين قيل: كانت لغة إسماعيل عليه السلام سريانيةً في الأصل، وقد نشأ وترعرع وقضى أيام طفولته في جرهم وتعلم منهم العربية، ولكنه نطق بالعربية الفصحى حيث ألهمه اﷲ العربیة الفصحة المبینة فنطق بها. 6 وهو أول من نطق بالعربیة الخالصة الحجازیة التي أنزل علیها القرآن. 7 فسارت هذه اللغة تنتشر بين البلاد والعباد، رغم أن معظم سكان الجزيرة العربية شمالًا في العصور القديمة كانوا من العرب المستعربة سواءً كانوا من أهل الحضارة أو أهل البداوة، ولما تصدع سد مأرب اختلطت بهم عرب اليمن، فقبائل العرب المستعربة هي تالية:
إن إسماعيل عليه السلام لما نزل مكة كان فيها بقية من جرهم، وآخرهم مضاض بن بشير، فتزوج إسماعيل من بنته، وتعلم العربية منهم، وتناسل فيهم، وأولاده هم العرب الإسماعيلية، ويسمونهم المستعربة؛ لأنهم دخلوا في العرب وهم ليسوا منهم كما فعل القحطانية في اليمن قبلهم. 8 وفي جانب آخر ولد لإسحاق عليه السلام أولاد، وتناسلوا وتكاثروا واشتهروا ببني إسرائيل وبالإسرائليين، كما اشتهروا بني إسماعيل بالإسماعيليين. ثم مع مر الأيام وكر الأزمان وقع بينهم الشحناء والبغضاء فتنافروا وتباعدوا حتى عزا بنو إسرائيل كل الفضائل والخصائل إلى أنفسهم دون أن يلتفتوا إلى بني إسماعيل، وأخفوا جانبًا من سيرة إبراهيم عليه السلام وأقواله التي تدل على فضل بني إسماعيل وشرفهم.
وبناءً على ذلك نرى أن العرب المستعربة هم بنو إسماعيل وبنو إسحاق وبنو قطورا، وكلهم من ولد إبراهيم عليه السلام، فهو الجد الأعلى للعرب المستعربة، لكن قامت بين إسماعيل عليه السلام وبين جرهم من العرب العاربة رابطة المصاهرة فتعلم منهم العربية، ونشأ ولده وسكنوا في معظم شمال الجزيرة العربية، مع ذلك كانت جنوب الشام وشمال الحجاز مساكن لمعظم ولد إبراهيم عليه السلام، وكانوا في العراق ما دام إبراهيم عليه السلام حيا بينهم، مقيمين في مدينة أور حيث كان ميناء خليج العرب، وهي تقترب من البصرة في الأيام الحاضرة، وبعد أن هاجرت هاجر مع إسماعيل عليهما السلام فبقي هو مع ذريته الآخرين في الشام وفلسطين، إلا أن عشيرة من ولده سكنت شمال الحجاز أيضًا. 9 ونطق القرآن بهذه الهجرة بشتى الأساليب، فلما دعا إبراهيم قومه إلى التوحيد، وأنذرهم من الشرك والوثنية، وخوفهم بدلائل قاطعة، هددوه بالإحراق في النار. يقول جل وعلا: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ 97 فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ 98 وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ 9910
هذه إشارة إلى تلك الهجرة التي هاجرها إلى الشام بعد أن عصم من النار، فأقام بها مع ابن أخيه لوط عليه السلام، ثم ذهب بزوجته هاجر وابنه إسماعيل بأمر الله تعالى إلى وسط الحجاز وتركهما في صحراء حافلة جافة، فدعا الله عز وجل: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ 3711 وكان إسماعيل عليه السلام حينئذ طفلا صغيرا، فكان في هذا الوادي حتى مرّت رفقة من جرهم أو أهل بيت منهم، ونزلوا أسفل مكة، فرأوا الطير حائمة فقالوا: لا نعلم بهذا الوادي ماء، ثم أشرفوا فرأوا المرأة وابنها فنزلوا معهما هنالك، فشب إسماعيل بينهم وتعلم اللغة العربية منهم وأعجبوا به كثيرا، وتزوج إمرأة منهم، وهي الحنفاء بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، فولدت له اثني عشر ذكرا، وهم قيدار ونابت وأدبيل ومشام ومسمع ودوما ومسا ومداد وتيما ويطور ونافس وقيدما، ولما توفي إسماعيل وليّ البيت الحرام بعده نابت بن إسماعيل. 12 وقيل: إن إسماعيل ولد من زوجه رعلة اثني عشر رجلًا هم: نابت، وكان أكبرهم وقيذر وأذبل وميشا ومسمعا وماشى ودما وأذر وطيما ويطور ونبش وقيذما. وأكثر هذه الأسماء ورودًا في الكتب العربية نابت وقيذر. وقد أخذ النسابون هذه الأسماء من التوراة. وفي التوراة: هذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومبسام، ومشماع، ودومة، ومسّا، وحدار، وتيما، ويطور، ونافيش، وقدمة. 13 ولم تذكر التوراة اسم المرأة التي تزوجها إسماعيل، فأولدها هؤلاء الأولاد الذين انتشروا. 14 وقد نشر الله العرب من نابت وقيدر. 15
فالأخبار التاريخية وإن تعارضت في تعيين أسماء أبناء إسماعيل عليه السلام، إلا أنها متفقة على أنهم اثنا عشر ذكرًا، وكانوا ساكنين في شمال العرب، ينتقلون من مكان إلى مكان، فافترقوا يطلبون السعة في البلاد، وحبس قوم أنفسهم على الحرم، فقالوا: لا نبرح من حرم الله. 16 فتفرقوا في الجزيرة العربية، وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون ثلاثين ومئة سنة.
وكان إسماعيل عليه السلام يتولى سدانة بيت الله الشريف وملك الحجاز، فلما توفي ولي سدانة البيت ابنه نابت فلما هلك نابت كان ولده أطفالًا، فتولى السدانة أخواله من جرهم، وكان أول من ولي ذلك منهم مضاض بن عمرو بن غالب الجرهمي، ثم بنوه بعده كابرًا عن كابر، فمن ثم صارت جرهم ولاة الحرم. 17 وذكر ابن الجوزي: لما توفي إسماعيل دبّر أمر الحرم بعده ابنه نابت بن إسماعيل. وقيل: اسمه نبت، وأمه الجرهمية، ثم مات نبت ولم يكن ولد إسماعيل، فغلبت جرهم على ولاية البيت. 18 ويقول ابن الوردي: اختلف المؤرخون في أمر الملك على الحجاز بين جرهم وبين إسماعيل. فمن قائل: كان الملك في جرهم، ومفتاح الكعبة وسدانتها مع بني إسماعيل. ومن قائل: إن قيدار توجته أخواله جرهم وملكوه عليهم بالحجاز وسدانة البيت الحرام، ومفاتيحه كانت في بني إسماعيل بلا خلاف حتى انتهى ذلك إلى نابت من ولد إسماعيل وصارت السدانة بعدهم لجرهم؛ بدليل قول عامر بن الحارث الجرهمي:
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر 19
انتشر بنو إسماعيل في عهد موسى عليه السلام في بلاد الحجاز كلها من الحويلة في اليمن إلى الشام (آشور)، وبعد موسى عليه السلام في عهد قضاة بني إسرائيل كانوا يغيرون مع العماليق وأهل مدين في قوة وفروسية على بني إسرائيل، وظل بنو إسرائيل عرضة لغارات الإسماعيليين سبع سنوات متواليات، كلما حان الحصاد خلال السنة هجم عليهم الإسماعيليون في سرعة البرق والريح، وحصدوا مزارعهم وأخذوها حتى نشأ في العام الثامن في بني إسرائيل فارس يسمى جدعون، فهزم الإسماعيليين هزيمة منكرة. 20 وأول برز في الإسماعيليين شخصية عبقرية يسمى عدنان، ومنه انحدر نسب العرب، وقبائل عدنان أشهر العرب المستعربة وأشهر بني إسماعيل.
العدنانية نسبة إلى عدنان الذي ينتهي نسبة إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وهم المعروفون بالعرب المستعربة، أي الذين دخل عليهم دم ليس عربيا، ثم تم اندماج بين هذا الدم وبين العرب، وأصبحت اللغة العربية لسان المزيج الجديد. وهؤلاء هم عرب الشمال، موطنهم الأصلي مكة، وهم إسماعيل وأبناؤه، والجراهمة الذين تعلم منهم إسماعيل العربية، وصاهرهم، ونشأ أولاده عربا مثلهم، ومن أهم ذرية إسماعيل عدنان جد النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى، ومن عدنان كانت قبائل العرب، وبطونها فقد جاء بعد عدنان ابنه معد، ثم نزار، ثم جاء بعده ولداه: ربيعة، ومضر، ومنهما كانت معظم القبائل العربية. 21
أما تفصيل القبائل العدنانية فهو أن عدنان 22 كان له ابنان، عكّ بن عدنان، ومعد بن عدنان. وولد معد بن عدنان ثمانية، يذكر منهم أربعة تعرف أعقابهم: قضاعة، وإياد، وقنص، ونزار. فأما قضاعة فصارت إلى اليمن إلى حمير، فهي تعد من اليمن. وأما قنص، فيزعم قوم أن آل المنذر -ملك الحيرة- منهم. وأما إياد، فينسبون إلى القبيل الأكبر، ليست منهم قبيلة مشهورة. ويذكر قوم أن ثقيفًا منهم. ويذكر قوم أن ثقيفًا من قيس عيلان. وأما نزار فولده مضر، وربيعة، وأنمار. 23 وقيل: ولد لنزار أربعة، منهم مضر على عمود النسب النبوي، وثلاثة خارجون عن عمود النسب. 24 وأما مضر وربيعة فإليهما ينسب ولد نزار، وهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام. 25 وكل منهما جيل كبير، تفرقت ربيعة في نجد حتى تهامة. ومضر منتشرة في الحجاز، وکانوا أهل الکثرة والغلب بالحجاز من سائر بني عدنان، وکانت لهم ریاسة بمکة. 26
بنو نزار هم ولد معد بن عدنان، بطنان كبيران: بنو مضر وبنو ربيعة. أما مضر فولد إلياس بن مضر، وعيلان بن مضر. فأما إلياس بن مضر، فيقال لولده: خندف؛ لأن امرأة إلياس كان يقال لها: خندف، فنسب ولد إلياس إليها، وهي أمهم. وولده مدركة بن إلياس، وطابخة بن إلياس، وقمعة بن إلياس. فأما قمعة فيذكر بعض النسابين أن خزاعة من ولده. ويزعم قوم أنهم من اليمن من ولد عمرو بن عامر ماء السماء، ورجعت خندف كلها إلى مدركة وطابخة. وأما عيلان بن مضر، فهو قيس عيلان. فمضر كلها ترجع إلى هذين الحيين، خندف وقيس. 27
تفرعت أكثر قبائل العدنانية من بني مضر، والمشهور من الموجودين من عقبه فخذان: الفخذ الأول: قيس عيلان، بإضافة قيس إلى عيلان، وهو قيس بن عيلان، واسمه الناس -بالنون- بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، فعيلان على هذا أبو قيس. وقيل: عيلان فرسه. وقيل: خادمه. وقيل: كلبه. قال أبو عبيد: وكان لقيس من الولد: خصفة، وسعد، وعمرو. ومن قيس عيلان بنو فهم، وهم بنو فهم بن عمرو بن قيس عيلان. ذكر القضاعي: أنهم حضروا فتح مصر واختلطوا بها. ومن بني فهم بنو طرود، وهم بنو طرود بن فهم. قال في العبر: وهو بطن متسع، وكانوا بأرض نجد وليس منهم الآن بها أحد، والمشهور من الموجودين الآن من قيس أربعة فصائل:
الفصيلة الأولى: بنو غطفان، وهم بنو غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان. قال في العبر: وهم بطن متسع كثير الشعوب والبطون، وكانت منازلهم مما يلي وادي القرى وجبلي طيء، أجأ وسلمى، ثم تفرقوا في الفتوحات الإسلامية، واستولت على مواطنهم هناك قبائل طيء. ومن غطفان: بنو عبس -بالباء الموحدة- وهم: بنو عبس بن بغيض بن ريث ابن غطفان. ومنهم ذبيان، وهم بنو ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان. قال أبو عبيد: كان له من الولد: سعد، وفزارة، ومازن. وهم بطن من بني ثعلبة بن سعد وعامر، وهم في بني يشكر على نسب، وسلمان، وهم في بني عبس على نسب، ويقال لهم: بنو دلاص. ومن ذبيان: فزارة، وهم: بنو فزارة بن ذبيان، كان له من الولد: مازن، وعدي. وكانت منازل فزارة بنجد ووادي القرى، ولم يبق منهم بنجد الآن أحد، ونزل جيرانهم من طيء مكانهم. ومن فزارة: بنو مازن، وهم: بنو مازن بن فزارة، ومساكنهم بلاد القليوبية من البلاد المصرية، ولهم بلاد تخصهم كزفتيا وسندبيس وما والاهما وليسوا بالكثير. ومن فزارة أيضًا: بنو بدر، بالضبط المعروف، وهم بنو بدر بن عدي بن فزارة. قال في العبر: وفيهم كانت رياسة بني فزارة في الجاهلية، وكانوا يرأسون جميع غطفان وتدين لهم قيس وإخوانهم ثعلبة بن عدي. 28
الفصيلة الثانية: من الموجودين من قيس عيلان: هوازن، وهم: بنو هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وهم الذين أغار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزاهم. ثم من هوازن: غزية، وهم بنو غزية بن جشم بن معاوية بن أبي بكر بن هوازن، ومنازلهم مع قومهم بني جشم بالسروات بين تهامة ونجد. ثم من هوازن: عامر بن صعصعة، وهم بنو صعصعة بن معاوية بن هوازن. ثم من عامر بن صعصعة بنو كلاب جمع كلب، وهم بنو كلاب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة. قال في العبر: ومنهم بنو الوحيد، وبنو ربيعة، وبنو عمرو، وكانت ديارهم حمى ضرية، وهو حمى كليب والزبدة في جهات المدينة النبوية، وفدك، والعوالي، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى الشام فكان لهم في الجزيرة الفراتية صيت، وملكوا مدينة حلب ونواحيها وكثيرا من مدن الشام، وأول من ملك منهم صالح بن مرادس. ومن عامر بن صعصعة أيضًا بنو هلال، وهم بنو هلال بن عامر بن صعصعة، منهم: ميمونة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وكان لهلال خمسة أولاد، شعبة وناشرة ونهيك وعبد مناف وعبد الله، ومن بني هلال بنو رباح. قال ابن سعيد: ومساكنهم في إفريقية بنواحي قسنطينة والمسيلة والزاب. قال في مسالك الأبصار: وهم فرقة كبيرة، فيهم كان ملك العرب القديم ببلاد المغرب. ومن رباح بنو فادع. ومن بني هلال أيضا بنو عامر، وهم بنو عامر بن هلال بن عامر بن صعصعة. قال الحمداني: وهم بطون بالصعيد، منهم رفاعة، وبنو حجير، وبنو عزيز. قال: وبإخميم منهم بنو قرة، وبساقية قلتة منهم طائفة، وبأصفون وإسنا بنو عقبة وبنو جميلة. ومن عامر بن صعصعة عقيل، وهم بنو عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. قال في العبر: وكانت مساكنهم بالبحرين في كثير من قبائل العرب، وكان أعظم قبائل البحرين بنو عقيل هؤلاء، وبنو تغلب، وبنو سليم، وكان أظهرهم في الكثرة والعز بنو تغلب، ثم اجتمع بنو عقيل وبنو تغلب على سليم وأخرجوهم من البحرين، فسارت إلى مصر، فأقام بها بعض وسار البعض إلى إفريقية من بلاد المغرب، ثم اختلف بنو عقيل وبنو تغلب بعد مدة فغلب بنو تغلب على بني عقيل وطردوهم من البحرين، فسار بنو عقيل إلى العراق، وملكوا الكوفة والبلاد الفراتية، وتغلبوا على الجزيرة والموصل، وملكوا تلك البلاد. 29
الفصيلة الثالثة من الموجودين من قيس عيلان: سليم، وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان. قال في العبر: وكانت مساكنهم في عالية نجد بالقرب من خيبر. قال: ومن منازلهم حرة سليم، وحرة النار، بين وادي القرى وتيماء. ومنهم بنو زيد، وبنو حمدان، وزيان ومن سليم لبيد، وهم بطن عظيم من سليم، مساكنهم أرض برقة، ولهم أفخاذ متسعة. ومن سليم بنو عوف، وهم بنو عوف بن بهثة بن سليم. ومن بني عوف بنو علاف، ومن بني علاف الكعوب. ومن الكعوب أولاد أبي الليل، وهم من أكابر العرب هناك، وفيهم الإمرة، ولهم الصولة. ومن سليم أيضا: ذباب، وهم: بنو ذباب بن مالك بن بهثة بن سليم. ومن سليم أيضا: بنو هيب، وهم: بنو هيب بن بهثة بن سليم. قال ابن سعيد: وأول ما يلي الغرب منهم بنو أحمد، ثم بنو شماخ. ومن سليم أيضًا: محارب. 30
الفصيلة الرابعة: من الموجودين من قيس عيلان: عدوان، وهم بنو عدوان، واسمه الحارث بن عمرو بن قيس. وكان له من الولد زيد، ويشكر، ودوس. قال في العبر: وهم بطن متسع. قال: وكانت منازلهم الطائف من نجد، نزلوها بعد إياد والعمالقة، ثم غلبتهم عليها ثقيف، فخرجوا إلى تهامة. 31
من مشاهير العرب المستعربة الموجودين الآن ربيعة. وهم بنو ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. كان له من الولد أسد، وضبيعة، وعمرو، وأكلب، وخلف، وخثعم. قال في العبر: وديارهم بين اليمامة والبحرين والعراق. وكان لأسد من الولد جديلة، وعنزة، وعميرة. ومن أسد هذه عنزة. قال في العبر: وكانت ديارهم عين التمر من برية العراق على ثلاث مراحل من الأنبار، ثم انتقلوا إلى جهات خيبر، قأقاموا هناك. ومن ريبعة أيضا وائل، وهم بنو وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة، كان له من الولد بكر، وتغلب، وعنز، والشخيص -فدخل في تغلب– والحارث. ثم وائل بطنان: البطن الأول: بكر بن وائل، وهم: بنو بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة. قال أبو عبيد: كان له من الولد علي ويشكر وبدن فدخل بدن في يشكر. قال في العبر: وفيهم العدد والشهرة. ومن بكر بن وائل بنو عجل، وهم بنو عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر ابن وائل، كان له من الولد سعد، وصعب، وربيعة، وضبيعة. قال في العبر: وكانت مساكنهم من اليمامة إلى البصرة. البطن الثاني: من وائل تغلب، وهم بنو تغلب بن وائل، والنسبة إلى تغلب: تغلبي -بفتح اللام- فإن نسبت إلى الغلباء قلت: غلباوي. وكان لتغلب من الولد غنم، والأوس، وعمران. ومن بني تغلب عمرو بن كلثوم الشاعر. ومن عقبة مالك بن طوق، الذي تنسب إليه مدينة الرحبة. قال في العبر: وكانت ديارهم بالجزيرة الفراتية بجهات سنجار ونصيبين. ثم من بني ربيعة أيضًا، فيما ذكره الحمداني: عائذ الحجاز. 32
ولد مضر بن نزار إلياس بن مضر، وعيلان بن مضر، فأما إلياس بن مضر، فيقال لولده: خندف؛ لأن امرأة إلياس كان يقال لها: خندف، فنسب ولد إلياس إليها، وهي أمهم. 33 واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة. 34 وكان للإلياس من الولد: مدركة، على عمود النسب، وطابخة، وقمعة، خارجا عن عمود النسب. 35 فأما قمعة، فيذكر بعض النسابين أن خزاعة من ولده، ورجعت خندف كلها إلى مدركة، وطابخة. فأما بنو مدركة بن إلياس، فهم هذيل، وأسد، وكنانة، وقريش. فأما هذيل فهو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وولده ثلاثة، سعد ولحيان وعمير. وأما أسد فهو أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، وله أخوان، كنانة بن خزيمة بن مدركة، والهون بن خزيمة بن مدركة، فولد أسد أربعة، دودان بن أسد، وكاهل بن أسد، وعمرو بن أسد، وحملة بن أسد، فهؤلاء بنو أسد بن خزيمة، ومنهم تفرقت أسد كلها. وولد الهون بن خزيمة بن مدركة القارة بن الهون. وأما كنانة فهو كنانة بن خزيمة. 36 فالحاصل أن خزاعة وتميم وخزيمة وأسد والهون وكنانة كلها بطون ربيعة.
بنو مدركة بن إلياس هم هذيل وأسد وكنانة وقريش، فأما هذيل، فهو: هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. وولده ثلاثة، سعد، ولحيان، وعمير. 37 ذكر ابن خلدون أنهم بطون كثيرة. 38 وتفرقت كلها في أنحاء العرب حتى كثروا وانتشروا وأصبحت قبائل عظيمة في الحجاز خاصةً.
كانت هذيل من خندف، وهم بنو هذيل بن مدركة بن إلياس. قال أبو عبيد: كان له من الولد، سعد ولحيان بطن وعميرة وهرمة بطن، وأمهم ليلى بنت فزان بن بلي، ومنهم عبد الله بن مسعود الصحابي رضي الله عنه وأبو ذؤيب الهذلي الشاعر في جماعة غيره من الشعراء. قال في العبر: وديارهم بالسروات، وسراتهم متصلة بجبل غزوان المتصل بالطائف. قال: ولهم مياه وأماكن في جهات نجد وتهامة، بيم مكة والمدينة، منها الرجيع، وبوادي نخلة من قرى مكة منهم الجم الغفير، ولهم بأس وشدة. ومن بطونهم الحتارشة، وبنو ريشة، كلاهما على القرب من نخلة. قال الحمداني: ومنهم طائفة بطوخ الجبل من إخميم من الديار المصرية، يدعون بني شاد. 39 قال يونس بن حبيب: ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر أو قائف أو زاجر أو كاهن، أو فارس، قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام أو شديد العدو.40
من مشاهير العرب المستعربة كنانة، وهم بنو كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس، كان له من الولد النضر على عمود النسب، وملك، وملكان، والحارث، وعامر، وسعد، وغنم، وعوف، ومجرية، وجرول، وعزوان، وجرال. قال أبو عبيد: وهم في اليمن. قال في العبر: وديارهم بجهات مكة. 41 ومن وولده عبد مناة بن كنانة، ولد بكر بطن ضخم، وعامر بطن ضخم، ومرة بطن ضخم. 42 ومن بني عبد مناة بنو جذيمة، الذين قتلهم خالد بن الوليد بالغميصاء، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم بنو ليث، رهط عبيد بن عمير الليثي، وعبد الله بن شداد، ومنهم الدئل، رهط أبى الأسود الدئلي. ومنهم بنو ضمرة، رهط عمرو بن أمية الضمري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 43 ومنهم بنو مدلج بن مرو بن عبد مناة، وفي نبي مدلج هؤلاء علم القيافة، وهو إلحاق بعض الأقارب ببعض كإلحاق الابن بالأب، والأب بالابن، ونحو ذلك بالشبه. ومنهم محرز المدلجي الصحابي رضي الله عنه، الذي سر النبي صلى الله عليه وسلم بقيافته في زيد بن حارثة، وابنه أسامة بن زيد، حيث دخل عليهما فوجدهما نائمين، وقد بدت أقدامهما من غطائهما. فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وقد ذكر في مسالك الأبصار أن بدمياط وجهاتها قوم من بني مدلج هؤلاء. 44 ومنهم بنو الحارث، هم بنو الرشد، وكانوا يدعون بنو غوى، فسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني الرشد. 45 فخزيمة ثم مدركة في عمود النسب النبوي على صاحبه ألف صلوات وتسليمات.
قريش أشهر قبائل العرب وأعظمها، وأضاف إلى قداستها وحرمتها كون الرسول صلى الله عليه وسلم فيها ، وكانت لها سمعة سائرة بين القبائل الأخرى بما تولت من سدانة بيت الله، وتدخلت في أنشطة تجارية في العرب،كانوا في عيش حضاري ورخاء اقتصادي، وشبكة تجارتهم ممتدة حتى كانت لهم علاقات واتفاقات تجارية مع أهل اليمن والشام والعراق والحبشة، كما كانت لهم مكانة مرموقة ونفوذ عميق في أمور اجتماعية، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ربط نسبي محكم بها، روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، أنا أعرب العرب، ولدتني قريش )). 46 وقد وردت لها فضائل وخصائل لا تعد في كتب الحديث والسيرة والتاريخ، نلخص هنا عدة أمور ترتبط بها. 47
كان أحد آباء النبي صلى الله عليه وسلم فهر بن مالك بن نضر بن كنانة، ملقبًا بقريش، وأطلق على كل من انحدر من ولده، وكل بطن متشعب منه. وقيل: إن اسمه قريش، ولقبه فهر. قال المؤرخون: إنما سمي بنو النضر بن كنانة قريشًا؛ لأن النضر بن كنانة خرج يومًا على نادي قومه. فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جمل قريش. وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس فيسدها بماله، والتقريش فيما زعموا التفتيش، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدونها بما يبلغهم. 48 وقيل: لأنهم كانوا يفتشون الحاج من ذي الخلة، فيسدون خلته، والقرش التفتيش. وقيل: لتجمعهم بعد التفرق، والتقرش: التجمع والالتئام. 49 وذكر الماوردي أن التقريش هو الاكتساب، وتقرشوا أي: تجمعوا، وقد كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم، حتى اتخذوه مسكنًا. 50 قال الشاعر:
أبونا قصي كان يدعى مجمعا
به جمع الله القبائل من فهر51
فالقول بجمعه إياهم متفرقين احتمال لا يرد.
أما قبائل قريش فهي إحدى عشر قبيلة:
بنو هاشم بنو أمية بنو عبد الدار بنو المطلب بن قصي بنو زهرة بنو تيم بنو عدي بنو مخزوم بنو سهم بنو حسل بنو هلال. 52
كانوا سكان مكة المكرمة في عهد الجاهلية. قيل: أنزل قصي القبائل من قریش أي: إنه جعلها اثنتي عشرة قبیلة. 53 ثم قسمهم إلى النوعين، قريش البطاح وقريش الظواهر، فمن دخلوا بطحاء مكة مع قصي فأقاموا بها معه فهم البطاح، ومن أقاموا بالسهول والفلوات فهم الظواهر. فقريش البطاح هم بنو قصي بن كلاب، وبنو كعب بن لؤي. وقريش الظواهر من سواهم، وقد صارت قريش إلى زمن الإسلام عدة بطون، وهم بنو الحارث بن فهر، وبنو جذيمة، وبنو عائذة، وبنو سامة، وبنو لؤي بن غالب، وبنو عامر بن لؤي، وبنو عدي بن كعب بن لؤي، وبنو فهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وبنو جمح، وبنو مخزوم، وبنو تميم بن مرة، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو عبد الدار، وبنو نوفل، وبنو عبد المطلب، وبنو أمية، وبنو هاشم. 54
هم بنو عدى بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك. 55 وولد عدي بن كعب رزاح بن عدي وعويج بن عدي. 56 فولد رزاح بن عدي قرطا، وولد قرط بن رزاح عبد الله، ثم ولد عبد الله بن قرط رياحا وتميما، واسمه عبد الله، وصدادا. ثم ولد رياح بن عبد الله عبد العزى. ثم ولد عبد العزى بن رياح نفيل بن عبد العزى، وكان يتحاكم إليه قريش. 57 وهو أبو الخطاب وجد أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه. ومن قريش بنو جمح، وهم ولد جمح بن عمرو بن هصيص، وجمح ولد حذافة وسعد، ثم حذافة ولد وهب وهو ولد خلف، أبو الأعداء الألداء الخصام للرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام. وقيل: إن كلدة بن أسيد الذي نزل فيه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ 458 وجميل بن معمر الذي نزل فيه: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ……459 أيضًا من بني جمع.
هم بنو سهم بن عمرو بن هصيص، كان لسهم من الولد سعد، وسعيد، فمن بني سعد بن سهم قيس بن عدي الذي يقال فيه: كأنه في العز قيس بن عدي، ومن بني سعيد بن سهم العمريون، وهم بنو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم، فتح مصر في سنة عشرين من الهجرة، واختط جامعها. ويقال: إنه وقف على إقامة محرابه ثمانون رجلًا من الصحابة رضي الله عنهم، وبنوه بها إلى الآن. قال في مسالك الأبصار: وهم بالفسطاط، ومنهم أشتات بالصعيد، ولهم حصة في وقف عمرو بن العاص على أهله بمصر. 60
هم بنو تميم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهم رهط طلحة، أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة. ومن تميم البكريون، وهم بنو أبي بكر الصديق رضي الله عنه، واسمه عبد الله. وقيل: عتيق بن عثمان. وكنيته أبو قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم. 61
هم بنو مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك. 62 وكان لمخزوم من الولد عمرو، وعامر، وعمران، منهم خالد بن الوليد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خالد ابن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. ومنهم أبو جهل بن هشام، عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه: عمرو. وفيه نزل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ……3163 وأخوه العاصي بن هشام، قتلا يوم بدر كافرين، وأخوهما سلمة بن هشام، وأسلم، وهو من خيار المسلمين. 64
هم بنو زهرة بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك. 65 وكلاب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في عمود النسب. كان لكلاب من الولد عبد مناف، والحارث. ومنهم آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم عبد الرحمن بن عوف، أحد العشرة أيضًا. قال الحمداني: ومن عقب عبد الرحمن رضي الله عنه جماعة بالبهنساوية، وما حولها من صعيد مصر. 66
هم بنو عبد الدار بن قصي، كان لعبد الدار من الولد عثمان وعبد مناف والسباق، وفي النسبة إليهم ثلاثة مذاهب: أحدها ينسب عبدي؛ نسبة إلى المضاف. وداري؛ نسبة إلى المضاف إليه. وعبدري؛ نسبة إليهما جميعًا، كما ينسب إلى عبد شمس عبشمي، وإلى عبد القيس عبقسي. ومن بني عبد الدار النضر بن الحارث، كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرًا، فرثته أخته قتيلة بنت النضر بقولها:
يا غاديا إن الأثيل مظنة
من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتا بأن تحية
ما إن تزال به الركائب تخفق
وفي بني عبد الدار حجابة الكعبة من الزمن القديم، والأصل في ذلك أن قصيا لما اشترى مفاتيح الكعبة من أبي غبشان الخزاعي بزق خمر بعث المفاتيح مع ابنه عبد الدار هذا، فوقف بها عند البيت، وقال: يا بني إسماعيل، هذه مفاتيح البيت قد ردها عليكم، فبقيت السدانة فيه وفي بنيه من بعده، ومن بني عبد الدار بنو شيبة، وهم بنو شيبة بن عثمان بن طلحة بن عبد الدار بن قصي، وبيدهم سدانة البيت؛ وذلك أن السدانة انتهت إلى عثمان، والد شيبة هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع استدعى منه فتح البيت ليلا ليدخل عائشة رضي الله عنها الكعبة، فامتنع من فتحها ليلا محتجًا بأن ذلك لم تجر به عادة، فانتزع النبي صلى الله عليه وسلم المفاتيح منه، فأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ……5867 فردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه وجعلها في عقبه إلى يوم القيامة، فهي بيدهم إلى الآن. 68
الأسدي نسبة إلى أسد، وهو اسم عدة من القبائل، منهم أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب من قريش، وإلى أسد ابن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، وإلى أسد بن ربيعة بن نزار، وإلى أسد بن دودان. وفي الأزد بطن يقال لهم بنو أسد، وهو أسد ابن شريك بن مالك بن عمرو بن مالك بن فهم. 69 والمراد بهم هنا بنو أسد بن عبد العزى بن قصي وهم بطن من قريش، ومن بني أسد خديجة بنت خويلد، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وورقة بن نوفل، الذي أتته خديجة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الوحي، ومنهم الزبير بن العوام، أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم الزبيريون، وهم بنو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد. قال الطبري: وكان له عشرة أولاد: أحدهم عبد الله، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهو الذي بويع له بالخلافة في خلال خلافة بني أمية، والثاني المنذر، والثالث عروة، وكان فقيهًا فاضلًا، والرابع الهاجر، وأمهم أسماء، والخامس مصعب، والسادس حمزة، وأمهما الرباب بنت أنيف، والسابع عبيدة، والثامن جفعر، وأمهما زينب بنت بشر، والتاسع عمرو، والعاشر خالد، وأمهما أم خالد بنت سعيد بن العاص. 70 ومنهم أبو خالد حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن لؤي ابن غالب الأسدي القرشي، من الصحابة، عداده في أهل الحجاز، عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة، ومات سنة خمسين وقيل سنة ستين وهو ابن عشرين ومئة سنة. وقيل مات سنة أربع وخمسين. وكان مولده قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، دخلت أمه الكعبة فمخضت به فولدت حكيم بن حزام في جوف الكعبة. 71 قال يونس بن حبيب: ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر أو قائف أو زاجر أو كاهن، أو فارس.
هم بنو أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. قال أبو عبيد: وهما أميتان: أحدهما أمية الأكبر، وكان له عشرة أولاد، أربعة منهم يسمون بالأعياص، وهم العاص، وأبو العاص، والعيص، وأبو العيص، سموا بذلك؛ أخذًا من أسمائهم، وستة منهم يسمون: العنابس، وهم حرب، وأبو حرب، وسفيان، وأبو سفيان، وعمرو، وأبو عمرو، سموا العنابس؛ بابن من أبناء حرب أحدهم، اسمه عنبسة، غلب عليهم اسمه. ومن عقب أمية هذا أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو عثمان بن عفان بن العاص بن أمية، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، والحكم بن العاص، وسائر خلفاء بني أمية بالشام ثم الأندلس. والثاني: أمية الأصغر، وأولاده يقال لهم العبلات، قال الجوهري: سموا بذلك؛ لأن اسم أمهم عبلة. وقال أبو عبيد: سموا بذلك لابن لأمية اسمه عبلة، وهو عبلة الشاعر. 72
بنو هاشم وهم بنو هاشم بن عبد مناف، وإلى هاشم انتهت رياسة قريش، وكان إذا حضر الحجيج إلى مكة قام في قريش فقال: يا معشر قريش، إنكم جيران الله، وأهل بيته، وهم ضيوف الله، وأحق الضيف بالكرامة، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعامًا أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها، فوالله لو كان مالي يسع ذلك ما كلفتكموه، فيخرجون لذلك خرجًا من أموالهم، كل امرئ بقدر ما عنده، فيصنع به للحاج طعاما حتى يصدروا منها، وهو أول من سن الرحلتين لقريش، وأول من أطعم الثريد بمكة، وكان اسمه عمرا، فسمي هاشما لذلك. وكان له ولدان عبد المطلب، وعليه عمود النسب. والثاني: أسد، وهو أبو فاطمة أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، وكان لهاشم ثلاثة أخوة، وهم عبد شمس، والمطلب، وهو جد الشافعي رحمه الله تعالى، ونوفل. ويقال: إن هاشمًا وعبد شمس توأمان، ولدا لبطن واحد وجلداهما معتلقان، فلما فرق بينهما بعد الولادة سال الدم بينهما. فقيل: إنه يكون بينهما دم يطل، فكان الأمر كذلك، حتى لم تزل الدماء تطل بين بني هاشم وبني عبد شمس ابن أمية. ومن ثم حرمت الصدقة على بني المطلب مع بني هاشم، وكان المطلبي كفؤا للهاشمية في النكاح، بخلاف نوفل وعبد شمس. 73 وولد لعبد المطلب اثنا عشر ولدا عبد الله، أبو النبي صلى الله عليه وسلم، على عمود النسب، وأبو طالب، والزبير، وعبد الكعبة، وأمهم فاطمة بنت عمر المخزومي، والعباس، وضرار، وأمهما نفيلة بنت جناب، وحمزة، والمقوم، وحجل، وأمهم هالة بنت أهيب، وأبو ليث، وقثم، والغيداق، والحارث، على خلاف في هذا العدد. قال أبو عبيد: والعقب منهم لستة العباس رضي الله عنه وعبد الله وأبو لهب والحارث. ثم المشهور من الموجودين من بني هاشم: فخذان، الفخذ الأول منهما العباسيون، وهم بنو العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم النبي صلى الله عليه وسلم وصنوا أبيه، أسلم بعد وقعة بدر الكبرى، وبقي إلى خلافة عمر رضي الله عنه، فأقحط الناس في سنة ثمان عشرة من الهجرة، وهو عام الرمادة، فاستسقى الناس به عمر، فسقي الناس، وبقى حتى توفي في خلافة عثمان في سنة اثنتين وثلاثين، عن ثمان وثمانين سنة، وكان إذا مر به عمر أو عثمان في خلافتيهما ترجل إجلالا له. ويقال: إنه لم ير بنو أب أبعد قبورا من بنيه: عبد الله بالطائف، وعبيد الله بالمدينة، والفضل بالشام، وقثم بسمرقند، ومعبد بإفريقية، وفضائله أشهر من أن تذكر. كان له تسعة أولاد الفضل، وبه كان يكنى، وعبد الله حبر الأمة، وعبد الله الثاني، وقثم، وعبد الرحمن، ومعبد، وتمام، وكثير، والحارث. والستة الأول أمهم لبابة بنت الحارث، من بني هلال بن عامر بن صعصعة، والخلفاء من بني ابنه عبد الله حبر الأمة. 74
وكذا من بني هاشم جماعة من أولاد علي وجعفر وعقيل يقال لهم الطالبي؛ لانتسابهم إلى أبى طالب. 75 فمن الطالبيين الجعافرة، وهم بنو جعفر بن أبي طالب، ويعرف بجعفر الطيار؛ وذلك أنه قطعت يداه يوم موته سنة ثمان من الهجرة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جعل منهما جناحين يطير بهما في الجنة، ولذلك قيل له: الطيار، وكان لجعفر أولاد، منهم محمد، وعبد الله. ومن الطالبيين العلويون، وهم بنو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، كانت قد أسلمت وهاجرت، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وعلي رضي الله عنه أحد العشرة المقطوع له بالجنة، وهو أول خليفة كان أبواه هاشميين. قال القاضي محب الدين الطبري: وكان له ثلاثة عشر ولدًا ذكرًا، وهم: الحسن والحسين، من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر، وأمه حمنة بنت جحش، وطلحة، وأمه حمنة أيضًا، ويحيى وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وأمهم أم أيمن بنت معاوية، وموسى وزكريا وأمهما أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويوسف وأمه أم كلثوم أيضًا. وذكر أن العقب منهم لستة، محمد بن الحنفية، والسجاد، ويحيى، وإسحاق، ويعقوب، وموسى. قال الطبري: والنسل فيهم لخمسة: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، وعمر، والعباس. قال: وأكثر أنساب العلويين راجع إلى الحسن، والحسين، وأخيهما محمد بن الحنفية. 76
كانت لقريش مكانة سامية بين العرب في زمن الجاهلية، يتحاكمون إلى دار الندوة، وهي نادية يتشاورن فيها في شؤونهم الاجتماعية والسياسية، وكانت العرب ينظرون إليهم بعين الاحترام والامتنان بما كانوا يتولون من خدمة الحجيج وقراهم أيام الحج، ومن ثم كان لهم الأمن والسلام في جميع العرب، فكانت قوافلهم تنتقل من مكان إلى آخر دون أي خطر، ثم نالت شرفا كاملا وفضلا عاليا بما بُعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ونلخص هنا أمورًا تدل على مكانتهم العالية ومنزلتهم السامية بين العالم كله.
قصي بن كلاب هو أول من عرف قريش وسمّعهم في العرب، وكانت بيده مفاتيح بيت الله، وله علاقات بالعرب الآخرين، وبنى دار الندوة، والندوة في اللغة: الاجتماع؛ لأنهم كانوا يجتمعون فيها للمشورة وغير ذلك، فلا تنكح امرأة ولا يتزوج رجل من قريش، ولا يتشاورون في أمر إلا في داره، ولا يعقدون لواء حرب إلا فيها يعقدها لهم قصي أو بعض بنيه. قال أبو عبيدة: ولما ولي قصي أمر مكة قال: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وجيران بيته، وأهل حرمه، وإن الحاج زوار بيت الله فهم أضياف الله وأحق الأضياف بالكرامة أضياف الله فترافدوا، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج حتى يصدروا، ولو كان مالي يسع ذلك قمت به، ففرض عليهم خرجًا تخرجه قريش من أموالها فتدفعه إليه فيصنع به طعامًا وشرابًا ولبنًا وغير ذلك للحاج بمكة وعرفة فجرى ذلك من أمره حتى قام الإسلام.77 فأضاف إلى شهرتهم ما قام به قصي من إكرام الحجيج ومواساة الفقراء.
ولي الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة، وكان مقلًا ذا ولد، وكان هاشم موسرا فكان -فيما يزعمون- إذا حضر الحاج قام في قريش، وقال: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله وحجاج بيته، وهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعامًا أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها، فإنه والله لو كان مالي يسع لذلك ما كلفتكموه. 78 وذكر أصحاب الأخبار أن هاشما كان يستعين على إطعام الحاج بقريش فيرفدونه بأموالهم ويعينونه ثم جاءت أزمة شديدة فكره أن يكلف قريشًا أمر الرفادة فاحتمل إلى الشام بجميع ماله واشترى به أجمع كعكًا ودقيقًا، ثم أتى الموسم فهشم ذلك الكعك كله هشمًا، ودقه دقا، ثم صنع للحجاج طعامًا شبه الثريد فبذلك سمي هاشمًا؛ لأن الكعك اليابس لا يثرد، وإنما يهشم هشمًا، فبذلك مدح حتى قال شاعرهم فيه وهو عبد الله بن الزبعرى:
کانت قریش بیضة فتفقأت
فالمح خالصه لعبد مناف
الخالطین فقیرهم بغنیهم
والطاعنین لرحلة الأضیاف
والرائشین ولیس یوجد رائش
والقائلین هلمَّ للأضیاف
عمرو العلا هشم الثرید لقومه
قوم بمکة مُسنتین عجاف 79
كانت قريش قبيلة آمنة مطمئنة، أتيحت لها فرص التجارة في جميع العرب دون أية صعوبة تواجههم، فكانوا أكثر أمنًا وسلامًا من الآخرين؛ لما كانوا شرفاء نبلاء، ولهم عظمة واحترام في نفوس العرب، فلا يعرضون لهم ولا لتجارتهم بسوء، قال الله تعالى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ 1 إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ 280 قال قتادة: كان أهل مكة يتعاورون البيت شتاء وصيفا، تجارًا آمنين، لا يخافون شيئًا لحرمهم، وكانت العرب لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعونه من الخوف، فذكرهم الله ما كانوا فيه من الأمن حتى إن كان الرجل منهم ليصاب في الحي من أحياء العرب، فيقال: حرمي. 81
فكان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل، بنو عبد مناف. فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك الشام، أي: أخذ منه حبلًا عهدًا يأمن به في تجارته إلى الشام، وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، ومعنى يؤلف يجير. فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين، فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الاخوة، فلا يتعرض لهم. قال الأزهري: الإيلاف: شبه الإجارة بالخفارة يقال: آلف يؤلف: إذا أجار الحمائل بالخفارة، والحمائل: جمع حمولة. قال: والتأويل أن قريشًا كانوا سكان الحرم، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يتخطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض الناس لهم. 82
كان العرب يعظمون الحرم ويقدسونه كما كانوا يعظمون سكانه، ولما كانت قريش -كما يزعمون- من أرض مقدسة فلهم خصائل مميزة وخصائص دينية لم تكن لأحد غيرهم، يسمون أنفسهم بأهل الحمس، ويزعمون أنهم أبر القبائل وأعلاها. تحج إليها ملوك حمير وكندة وغسان ولخم فيدينون للحمس من قريش ويزيدون في تعظيمهم ويرون الاقتداء بآثارهم من الشرف والفرائض، وكان أهلها آمنين، يغزون الناس ولا يغزون، ويحكمون على الناس ولا يحكم عليهم أحد. 83
وأضاف إلى شهرتهم أن مكة كانت مركزا تجاريا كجسر مربوط بين العرب واليمن، تقع بين ممرات تجارية تمر بين الحبشة واليمن والشام، وتمتد هذه التجارة إلى اليمن وحضرموت شرقًا، والحيرة شمالًا، وبُصرى والشام وغزة ومصر، وتحترز قريش عن الحرب مخافة الأسر وفقد الأموال، ثم زادهم قوة وبطشة تضامنهم وتحالفهم مع القبائل المقيمة على جبال مكة، وكانت العرب تهتم بها وتزعمها كأمارة القداسة والحرمة.
ولا شك في أن منبع القداسة التي جلبت إلى قريش هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له صلى الله عليه وسلم بها ربط محكم، وترى أهيمته في الأحاديث النبوية على صاحبها آلاف التحيات والتسليمات، روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، أنا أعرب العرب، ولدتني قريش )). 84 وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (( أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد )). 85 وعن يحيى بن يزيد السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أنا أعربكم، أنا من قريش، ولساني لسان بني سعد بن بكر )). 86
فما نالته قريش من شرف وفضل إنه موهبة ربانية حصلت لها بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فتنزل عليهم البركات والرحمات، فكانت ذا رفعة وعظمة في الجاهلية، ثم أعزها الله بالإسلام حتى حكمت العالم الإسلامي إلى عدة قرون، فكان الخلفاء والملوك كلهم من قريش قبل عهد العثمانيين، وما زالوا فخورين على نسبهم سواءً كانوا من العرب أو من العجم؛ فإن النسبة القريشية تعني من أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفى بها فخرًا.
تزوج إبراهيم عليه السلام بثلاثة، وانحدر من جميعها نسل تكونت منهم قبيلة مستقلة، فبنو إسرائيل من سارة، وبنو إسماعيل من هاجر، وبنو قطورا من قطورا، وهي امرأة كنعانية تزوج بها إبراهيم عليه السلام. وقيل: كانت أمته. سكن بنو قطورا في بلاد العرب فهم معدودون فيهم. وذكر المؤرخون أن إبراهيم عليه السلام كان له ابنان. يقول الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ 3587 وقد ورد في الآية كلمة بني، وهي جمع، وأقل أفراد الجمع ثلاثة، فالآية تدل على أن له على الأقل ثلاثة أبناء، ولعلهم أكثر من ثلاثة. وفي التوراة: عاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قطورة، فولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق شوحا. 88
سكن ابنه مديان (مدين) الحجاز مع أهله، ثم أصبح ولده قبيلةً كبيرةً بُعث فيهم شعيب عليه السلام، وسمي بأهل مدين وقوم شعيب عليه السلام. قال الله تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا……3689 أي: وأرسلنا إليهم، وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله شعيب بن ميكائيل ابن يسجر بن مدين، وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لحسن مراجعته قومه. 90 وذكر القرطبي أن في تسميتهم بذلك قولين، أحدهما أنهم بنو مدين بن إبراهيم فقيل: مدين. والمراد بنو مدين كما يقال مضر، والمراد بنو مضر، والثاني أنه اسم مدينتهم، فنسبوا إليها. قال النحاس: لا ينصر مدين؛ لأنه اسم مدينة. 91 فسمي بنو قطورا بأهل مدين؛ لنسبة شعيب عليه السلام إليهم، ولما هاجروا إلى أنحاء خليج العقبة وسكنوا فأطلقت مدين على القبيلة وعلى المدينة. 92
عرف بنو قطورا بجدهم مدين، بعث فيهم شعيب عليه السل ام، وهو شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين. 93 وقيل: شعيب بن ثويب بن مدين. وقيل: شعيب بن يثرون بن مدين. 94 وقد اشتهر هذا الجيل المنحدر من سلالة إبراهيم عليه السلام في تاريخ العرب ببني قطورا؛ نسبة إلى زوج إبراهيم عليه السلام.
كانو سكان الجزيرة العربية، تقع مساكنهم بأيلة في جنوب خليج العقبة، ممتدة من بحر القلزم إلى تبوك شرقا، وتسمي بلادهم مدين، بفتح أوله، وسكون ثانيه، وفتح الياء المثناة من تحت، وآخره نون. قال أبو زيد: مدين على بحر القلزم محاذية لتبوك على نحو من ست مراحل، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام، لسائمة شعيب. قال: ورأيت هذه البئر مغطاة قد بني عليها بيت وماء أهلها من عين تجري، ومدين اسم القبيلة، وهي في الإقليم الثالث، طولها إحدى وستون درجةً وثلث، وعرضها تسع وعشرون درجةً، وهي مدينة قوم شعيب سميت بمدين بن إبراهيم عليه السلام، قال القضاعي: مدين وحيزها من كورة مصر القبلية. وقال الحازمي: بين وادي القرى والشام. 95 وتقع في مدين من المناطق البدع والحميدة ومقنا والخربية وتريم والمويلع وضبا، كلها معدودة في مدين، وقد ذكر الله تعالى عنهم: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ 78 فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ 7996 وإمام مبين هو طريق معلم واضح، وهي طريق التجارة لأهل الحجاز تمر بمدين وسدوم.
إن الله تعالى أرسل شعيبًا عليه السلام إلى كل من أهل مدين وأصحاب الأيكة. قال تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا……8597 وقال تعالى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ 176 إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ 17798 ثم اختلفت آراء العلماء والمفسرين، هل كانا أصحاب مدين وأصحاب الأيكة أمتين مختلفيتن أو كانا اسمين لأمة واحدة؟ فروي عن قتادة أن شعيبا عليه السلام أرسل إلى أمتين، أصحاب مدين وأصحاب الأيكة. ورجّح قوله بأنه وصف في أصحاب مدين بأنه أخوهم بخلاف أصحاب الأيكة. وقال في أصحاب مدين: أخذتهم الرجفة والصيحة، وفي أصحاب الأيكة: أخذهم عذاب يوم الظلة. 99
على أن الجمهور ذهبوا إلى أنهما اسمان لأمة واحدة، سميت بمدين؛ لنسبتها إلى جدهم الأعلى مدين، وسميت الأيكة؛ نظرًا إلى موقعها الجغرافي والطبيعي. يقول ابن كثير: هم أهل مدين على الصحيح، وكان نبي الله شعيب عليه السلام من أنفسهم، وإنما لم يقل هنا أخوهم شعيب؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجرة، وقيل: شجر ملتف كالغَيضة، كانوا يعبدونه؛ فلهذا لما قال: كذب أصحاب الأيكة المرسلين، لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب، وإنما قال: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ 176 إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ 177100 فقطع نسبة الأخوة بينهم؛ للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسبًا. ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة، فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين، فزعم أن شعيبًا عليه السلام، بعثه الله إلى أمتين. ومنهم من قال: ثلاث أمم. 101
كانت بنو قطورا أي أهل مدين متطورين في أنشطتهم التجارية وعلاقاتهم مع الأمم والحضارات الأخرى، وكانت مع ذلك لقبائل مدين حياة منسقة، فكان في المدينة كهنة يعلمونهم أمور دينهم وآداب الحياة والمعيشة، وكان هؤلاء الكهنة هم ولاة مدنهم الشرعية. 102
كانوا في بداية الأمر موحدين مؤمنين بالله الواحد، ثم انخرطوا في أدناس الشرك وانغمسوا فيها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبًا رسولًا يعمل فيها بالمعاصي، وتستحل فيها المحارم، وتسفك فيها الدماء، قال: فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيبًا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكل نبي بعث إلى قومه فهو صلاحهم. 103
بعد ما بعث شعيب عليه السلام في قومه دعاهم إلى التوحيد والدين الحنيف، ونهاهم عن البخس في الكيل والوزن، والفساد والدمار. قال الله تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ 84 وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 85105 لكنهم ردوا دعوته ردًا عنيفًا حيث: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ 88106
لما بالغوا في السيئات والمعاصي، وأعرضوا عما دعا إليه شعيب عليه السلام، أنذرهم من عذاب الله، وقال لهم نبيهم شعيب: وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ 93107 ولما لم يمتنعوا مما فيها من القبائح والذنوب أنزل الله تعالى عليهم بأسًا شديدًا، قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ 94108
وردت هنا كلمة الصيحة، وقد وردت في سورة الشعراء كلمة عذاب يوم الظلة: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 189109 وذلك يدل على أنه قد نزل عليه كلا النوعين من العذاب. قال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث الله عليهم وهدةً وحرًا شديدًا، فأخذ بأنفاسهم، فلما أحسوا بالموت بعث لهم سحابةً فأظلتهم، فتنادوا تحتها، فلما اجتمعوا سقطت عليهم، والظلة السحابة. 110 ونجى الله شعيبًا ومن معه من المؤمنين، فهاجروا إلى مكة. قال وهب بن منبه: شعيب عليه السلام مات بمكة ومن معه من المؤمنين، وقبورهم غربي الكعبة، بين دار الندوة ودار بني سهم. 111 فأصبحت بنو قطورا كأنهم لم يكونوا على وجه الأرض.
الأدوميون هم نسل عيسو أو أدوم (אֱדוֹם). ومعنى أدوم أحمر. 112 وكان عيسو توأم يعقوب عليه السلام. فورد في التوراة: فلما كملت أيامها (رفقة بن بتوئيل زوجة إسحاق عليه السلام) لتلد إذا في بطنها توأمان، فخرج الأول أحمر، كله كفروة شعر، فدعوا اسمه عيسوا، وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو، فدعي اسمه يعقوب، وكان اسحاق ابن ستين سنة لما ولدتهما. 113 وكان عيسو إنسانا يعرف الصيد، إنسان البرية. 114 فسكن في جبل سعير. 115 ثم سكن في أرض سعير أبناء عيسو وهو إقليم جبلي وعر. وجبل هارون الذي يقع في تلك البقعة يرتفع إلى أربعة ألف وثمانمائة وستين قدما فوق سطح البحر، ويمتد الإقليم مسافة مائة ميل بين البحر الميت وخليج العقبة، على جانبي غور العربة، والجزء السفلي من سلسلة الجبال مكون من صخور حمراء رملية ممتجة ببعض حجر الجرانيت الأحمر مع بعض الأحجار الرخامية الحمرء، ولذا فلون الصخور في البتراء جميل للغاية، وليست أرض أدوم خصبة كأرض فلسطين. 116
كان بنو عيسو إليفاز، ورعوئيل، ويعوش، ويعلام، وقورح. وبنو إليفاز تيمان، وأومار، وصفي، وجعثام، وقناز، وتمناع، وعماليق. وبنو رعوئيل: نحث، وزارح، وشمة، ومزة. 117 وكان حكام أدوم في البداية أمراء يشبهون رؤساء القبائل، ولكنهم أصبحوا فيما بعد وقبل قيام مملكة إسرائيل يلقبون بالملوك. 118 ومدينة أيلة المسماة بـإيلات، وأيلوت عند العبرانيين، وهي مدينة مهمة من مدن أدوم. 119
هذا وقد ورد ما جرى بينهم وبين بني إسرائيل في التوراة: وأرسل موسى رسلا من قادش إلى ملك أدوم. هكذا يقول أخوك إسرائيل. قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا. إن آباءنا انحدروا إلى مصر. وأقمنا في مصر أياما كثيرة، وأساء المصريون إلينا وإلى آبائنا. فصرخنا إلى الرب فسمع صوتنا، وأرسل ملاكا وأخرجنا من مصر. وها نحن في قادش مدينة في طرف تخومك، دعنا نمر في أرضك. لا نمر في حقل ولا كرم ولا نشرب ماء بئر، في طريق الملك نمشي. لا نميل يمينا ولا يسارا حتى نتجاوز تخومك. فقال له أدوم: لا تمر بي؛ لئلا أخرج للقائك بالسيف. فقال له بنو إسرائيل: في السكة نصعد، وإذا شربنا أنا ومواشي من مائك أدفع ثمنه، لا شيء أمر برجلي فقط. فقال: لا تمر، وخرج أدوم للقائه بشعب غفير وبيد شديدة، وأبى أدوم أن يسمح لإسرائيل بالمرور في تخومه. فتول إسرائيل عنه، فارتحل بنو إسرائيل، الجماعة كلها من قادش وأتوا إلى جبل هور. 120
ورد في التوراة: هذه مواليد تارح: ولد تارح أبرام وناحور وهاران، وولد هاران لوطا، ومات هاران قبل تارح أبيه في أرض ميلاده في أور الكلدانيين، واتخذ أبرام وناحور لأنفسهما امرأتين، اسم امرأة أبرام ساري واسم امرأة ناحور ملكة بنت هاران، أبي ملكة وأبي يسكة، وأخذ تارح أبرام ابنه ولوطا بن هاران، ابن ابنه، وساراي كنته امرأة أبرام ابنه، فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك. 121 وبقي ناحور في أور الكلدانيين، وأقام في مدينة ناحو في أرام النهرين (حاران). وقد أنجب ناحور من ملكة ثمانية أبناء، أصبحوا فيما بعد أجداد القبائل الآرامية. 122 أسماؤهم واردة في التوراة: وهي عوصا بكره، وبوزا أخاه، وقمويل أبارام، وكاسد، وحزوا، وفلداش، ويدلاف، وبتوئيل. وولد بتوئيل رفقة، هؤلاء الثمانية ولدتهم ملكة لناحور أخي أبراهيم، وأما سريته واسمها رؤومة، فولدت هي أيضًا طابح، وجاحم، وتاحش، ومعكة. 123
قال ابن خلدون: كان لناحور من ملكا على ما وقع في نص التوراة ثمانية من الولد، عوص وبوص وقمويل وهو أبو الأرمن، وكاس ومنه الكلدانيون الذين كان منهم بخت نصر وملوك بابل، وحذو وبلداس وبلداف ويثويل، وكان له من سرية اسمها أدوما أربعة من الولد، وهم طالج وكاحم وتاخش وماعخا، هؤلاء ولد ناحور أخي إبراهيم، وهم اثنا عشر ولدًا، وهؤلاء كلهم بادوا وانقرضوا، ولم يبق منهم إلا الأرمن من قمويل بن ناحور أخي إبراهيم عليه السلام ابن آزر، وهم لهذا العهد على دين النصرانية ومواطنهم في أرمينية شرقي القسطنطنية. 124
كان الحرانيين أبناء حاران بن تارح أخي إبراهيم عليه السلام، وكان له ابن وبنتان، لوط وسارة وملكه، ومات حاران قبل أبيه في أرض ميلاده التي ولده بها، فتزوج إبراهيم عليه السلام بسارة وناحور بملكه، وهاجر لوط عليه السلام مع جده تارح إلى أرض كنعان. وقد ورد ذكر ابني لوط عليه السلام أحدهما موآب وهو أبو الموآبيين، والثاني بن عمي وهو أبو بني عمون. 125 وقيل: إن جدة شعيب هي بنت لوط عليه السلام. 126
بعد ما خرجوا من بابل أقاموا بأرض حران، ثم هاجروا إلى الأردن. قال ابن خلدون: كان له من الولد على ما ذكر في التوراة عمون -بتشديد الميم وإشباع حركتها بالضم ونون بعدها-، وموآيي -بإشباع ضمة الميم وإشباع فتحة الهمزة بعدها وياء تحتية وبعدها ياء ساكنة هوائية-، وجعل الله في نسلهما البركة، حتى كانوا من أكثر قبائل الشام، وكانت مساكنهم بأرض البقاء ومدائنها في بلد موآيي ومعان وما والاهما، وكانت لهم مع بني إسرائيل حروب نذكرها في أخبارهم، وكان منهم بلعام بن باعورا بن رسيوم بن برسيم بن موآيي. وقصته مع ملك كنعان حين طلبه في الدعاء على بني إسرائيل أيام موسى عليه السلام وأن دعاءه صرف إلى الكنعانيين. 127 ويتبين من روايات التوراة أن الموآبيين والعمويين حاربوا فيما بينهم، ففي التوراة: ثم بعد ذلك أتى بنو موآب وبنو عمون ومعهم العمونيون على يهو شافاط للمحاربة. 128 وكانوا يعبدون الأصنام، ففيها: وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم والعشتاروث وآلهة أرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين، وتركوا الرب ولم يعبدوه. 129
حاولنا في تقسيم العرب الزماني والمكاني التأكيد على أن العرب لم يزالوا أصل العرب منذ بداية الأمر، فالعرب جميعًا -ولو لم يرد لهم ذكر طويل ولا تفصيل واضح في الكتب التاريخية- هم أبناء أصل العرب إما بتوسط أو لا، وبناءً على هذا فإن تقسيم العرب إلى البائدة والعاربة والمستعربة، ووضع الضابط الكلي الذي يعرف به أصل العرب وغيرهم، ثم تقليل أهميتهم وقيمتهم ضمن وضع مراتبهم ودرجاتهم إما إشارة إلى هدف مخصوص أو محاولة فاشلة لوضع ضابط علمي بعد قبول هذا التقسيم، وإلا فالقواعد العلمية لا توضع إلا ليوصل بها من المعلوم إلى المجهول، ولو قام أحد-نظرًا إلى قاعدة يعرف بها المعلوم من المجهول- بمعرفة آباء قوم أو شعب أو معرفة أنهم أبناء حقيقيون لبطل أصل كل قوم على وجه الأرض؛ وذلك لأنه اعتبر هؤلاء المجهولين أصل آباءهم، فكيف نعرف من سبق منهم قبل أربعة آلاف سنةٍ؟ ونتيجة لذلك نسلم أن كل قوم أبناء منطقتهم دون الأصليين، وهو عند كل ذي قلب سليم محاولة أضحوكة أو أغلوطة.
وكيف يمكن أن يكون المجهول مقياسًا حقيقيًا لمعرفة أصل الشيء وغيره؟ وهل رأيتم أعجوبة مثل هذا؟ ولو سلمنا بذلك على سبيل الفرض، فلا بد أن نقول بأن بني إسرائيل ليسوا بأصليين، ويردّ كل شيء أورده؟ مع أن آباءهم وأسلافهم أصل بني إسرائيل الذين فقد ذكرهم كالعرب البائدة، وما بقي فليس بأكثر من القصص والأساطير، وذلك أمر لا يعقل.
إن بني إسماعيل وشعوب العرب الأخرى هم العرب المستعربة، ويراد بهم من نطق بالعربية وتثقف بالثقافة العربية، وهم الأجيال القادمة بعد إسماعيل عليه السلام في منطقة العرب، ولم يكن هذا التقسيم معروفًا عند المؤرخين والنسابين قبل الإسلام ولا في بداية أمر الإسلام، ومعلوم أن أهل التواريخ والأنساب قد اعتبروا العرب كلهم أصل العرب، ولم يكن عندهم شعب ولا جيل دخل الجزيرة العربية وتسلط عليها، ومن ثم استخدم المؤرخون القدماء مصطلح العرب البائدة والعاربة، ويعدون القحطانيين والعدنانيين العرب العاربة أو أصل العرب، وذهب بعض المؤرخين إلى أن الغرض وراء وضع مصطلح المستعربة تقليل قيمة القبائل العدنانية وبني تارح في نظر شعوب العرب القديمة، والحكم عليهم بأنهم مهاجرون إليها من الخارج. وأعجب من ذلك أن المستعربة هي شعوب عربية تخالف وتضاد بني إسرائيل، كما لا يخفى على أحد أن بني إسرائيل هم أعداء لهم سواءً كانوا بني إسماعيل أو بني قطورا أو بني حاران أو بني أدوم أو بني ناحور، ولعلهم عدوا قسما جديدا من العرب، وسمي بالعرب المستعربة، بينما اليوم أيضًا ذهب بعض الباحثين والمحققين إلى أن العرب هم نوعان: بائدة وعاربة، وذلك أرجح عندهم.