لم تكن اليهودية، الديانة السماوية الوحيدة التي وجدت لها سبيلا إلى جزيرة العرب، بل وجدت ديانة سماوية أخرى طريقا لها إلى العرب، هي الديانة النصرانية، وهي ديانة أحدث عهدا من الديانة الأولى؛ لأنها قامت بعدها، ونشأت على أسسها ومبادئها، ولكنها كانت أوسع أفقا وتفكيرا من الأولى. فبينما حبست اليهودية نفسها في بني إسرائيل، وجعلت إلهها إله بني إسرائيل شعب اللّٰه المختار، جعلت النصرانية ديانتها ديانة عالمية جاءت لجميع البشر. وبينما قيدت اليهودية أبناءها بقيود تكاد تضبط حركاتهم وسكناته، وفرضت عليهم فروضا ثقيلة، نجد النصرانية أكثر تساهلا وتسامحا، فلم تقيد أبناءها بقيود شديدة، ولم تفرض عليهم أحكاما اشترطت عليهم وجوب تنفيذها. وقد قام رجال الدين النصارى منذ أول نشأتها بالتبشير بها، وبنشرها بين الشعوب، وبذلك تميزت عن اليهودية التي جمدت، واقتصرت على بني إسرائيل. 1 أما النصرانية فقد شاعت وانتشرت في البلاد حتى بلغت إلى جميع أنحاء جزيرة العرب.
تشير نصوص الإنجيل إلى أن العرب كانوا في جملة من اجتمعوا في أورشليم أيام بطرس. 2 ما يدل على أنه كان أول ما دخلت النصرانية في قلوب العرب. وذكر بولس الداعية النصراني الكبير في رسالته إلى أهل غلاطية أنه سافر إلى جزيرة العرب لتبليغ النصرانية ونشرها، فورد في العهد الجديد من الكتاب المقدس: ولا صعدت إلى أورشليم، إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقت إلى العربية ثم رجعت أيضًا إلى دمشق. 3 وقيل: الظاهر أن النصرانية دخلت أولا في حاضرة حوران أي بصرى، فقد ورد أن تيمون أحد الشمامسة السبعة نشر الدعوة النصرانية في مدينة بصرى، فعد كرأس أساقفتها. 4
إن دخول النصرانية إلى الجزيرة العربية كان بالتبشير وبدخول بعض النساك والرهبان إليها للعيش فيها بعيدين عن ملذات الدنيا، وبالتجارة، وبالرقيق ولا سيما الرقيق الأبيض المستورد من أقطار كانت ذات ثقافة وحضارة. أما هجرة نصرانية كهجرة يهود إلى الحجاز أو اليمن أو البحرين، فلم تحدث؛ ذلك لأن النصرانية انتشرت في إمبراطورية الروم والساسانيين بالتدريج، ثم صارت ديانة رسمية للقياصرة والروم وللشعوب التي خضعت لهم، فلم تظل النصرانية أقلية هناك، لتضطر إلى الهجرة جماعة وكتلة إلى بلد غريب. وبفضل ما كان لكثير من المبشرين، من علم ومن وقوف على الطلب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس، تمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فأدخلوهم في دينهم، أو حصلوا منهم على مساعدتهم وحمايتهم. فنسب دخول بعض سادات القبائل ممن تنصر إلى مداواة الرهبان لهم ومعالجتهم حتى تمكنوا من شفائهم مما كانوا يشكون منه من أمراض. وقد نسبوا ذلك إلى فعل المعجزات والبركات الإلهية، وذكر بعض مؤرخي الكنيسة أن بعض أولئك الرهبان القديسين شفوا بدعواتهم وببركات الرب نساء العقيمات من مرض العقم فأولدن أولادا، ومنهم من توسل إلى اللّٰه أن يهب لهن ولدا ذكرا، فاستجاب دعوتهم، فوهب لهم ولدا ذكرا، ومنهم من شفي بعض الملوك العرب من أمراض كانت به. 5
ولم يعبأ المبشرون بالمصاعب والمشقات التي كانوا يتعرضون لها، فدخلوا مواضع نائية في جزيرة العرب، ومنهم من رافقوا الأعراب، وعاشوا عيشتهم، وجاروهم في طراز حياتهم، فسكنوا معهم الخيام، حتى عرفوا بأساقفة الخيام وبأساقفة أهل الوبر، وبأساقفة القبائل الشرقية المتحالفة وبأساقفة العرب البادية. وقد ذكر أن مطران بصرى كان يشرف على نحو عشرين أسقفا انتشروا بين عرب حوران وعرب غسان وقد نعتوا بالنعوت المذكورة؛ لأنهم كانوا يعيشون في البادية مع القبائل عيشة أهل الوبر. وقد دخل أناس من العرب بالنصرانية باتصالهم بالتجار النصارى وبمجالستهم لهم. 6
الحجاز على مقتضى تعريف العرب جبل ممتد من تخوم صنعاء في اليمن إلى تخوم الشام من جنوب جزيرة العرب الشرقي إلى شمالها الغربي. وقد دعي حجازا؛ لأنه يحجز غور تهامة على سواحل خليج العرب عن بلاد نجد في أواسط الجزيرة، ويدعى الحجاز أيضًا بجبل السراة وهو أعظم جبال العرب، وفيه أشهر مدنهم أي مكة والمدينة وتدخل فيه دومة الجندل حتى أيلة على بحر القلزم. فتلك البلاد كانت قديما عريقة في الوثنية ولاسيما في عبادة قوات الطبيعة وأخصها النيران العظيمان للشمس والقمر ثم الزهرة، على أن دعاة الدين المسيحي لم يحجموا عن دعوة أهلها إلى النصرانية كما تشهد عليه شواهد ثابتة نقلها قدماء الكتبة من يونان وسريان وعرب. 7 فروي عن علماء النصارى أن عيسى عليه السلام ظهر لتلاميذه بعد صلبه وأمرهم بتبليغ رسالته في النواحي كما عين لهم من قبل، فبعث من الحواريين إلى شتى الأنحاء والبلاد، وقد بعث منهم إلى أرض العرب والحجاز برتلماوس. 8 كما ورد في سيرة النبي لابن هشام أنه بعث من الحواريين والأتباع ابن ثلماء إلى الأعرابية، وهي أرض الحجاز. 9 فهذه شهادة جليلة تشير إلى مجيء أحد رسل السيد المسيح إلى الحجاز قريبا من المدينة. 10
قد وجدت النصرانية لها سبيلا بين عرب بلاد الشام وعرب بادية الشام والعراق. فدخلت بين سليح، والغساسنة، وتغلب، وتنوخ، ولخم، وإياد. 11 وقد ذكر المؤرخون أن القبيلة الأولى التي تولّت على بادية الشام باسم الرومان إنما كانت قضاعة من قبائل اليمن. ثم غلبتها على الأمر سليح ثم جاءت بعدهما قبيلة غسان فملكت على تلك الجهات وبقي ملكها إلى ظهور الإسلام. والحال أن هذه القبائل الثلث قد دانت بالنصرانية على رأي المؤرخين. 12 وقد انتشرت النصرانية بين الغساسنة وبلاد الشام بنسبة تزيد على نسبة انتشارها بين البلاد العربية الأخرىن، وهو شيء طبيعي، فقد كانت بلاد الشام تحت حكم البيزنطيين، وديانتهم الرسمية، هي الديانة النصرانية، وكانوا يعملون على نشرها وترويجها بين شعوب إمبراطوريتهم، وبين الشعوب الأخرى، لا سيما الشعوب التي لهم مصالح اقتصادية معها. ففي نشر النصرانية بينهم وإدخالهم فيها تقريب لتلك الشعوب منهم، وتوسيع لنفوذهم السياسي بينهم، وتقوية لمعسكرهم المناهض لخصومهم الفرس، أقوى دولة معادية لهم في ذلك الوقت. ولهذا سعت القسطنطينة لإدخال عربهم في النصرانية، وعملت كل ما أمكنها عمله للتأثير على سادات القبائل لإدخالهم في دينهم، بدعوتهم لزيارة كنائسهم وبإرسال المبشرين اللبقين إليهم، لاقناعهم بالدخول فيها، وبإرسال الأطباء الحاذقين إليهم لمعالجتهم، وللتأثير عليهم بذلك في اعتناق النصرانية، كما دعوهم لزيارة العاصمة، لمشاهدة معالمها ولأنهار عقولهم بمشاهدة كنائسها، والاتصال بكبار رجال الدين فيها، لتعليمهم أصول النصرانية. وأظهروا لهم مختلف وسائل المعونة والمساعدة إن دخلوا في ديانتهم، وبذلك أدخلوهم في النصرانية فصاروا إخوانا للروم في الدين. 13
كانت نجران مركز النصرانية، وكانت أرضا خصبة، متقدمة في التجارة والزراعة والصناعة، وكان أهلها عند ظهور الإسلام أغنى سكان الجزيرة، فقد كانت وسط سهول خصبة، اشتهرت بصناعة المنسوجات، ومنها الحريرية، والصناعات الجلدية والأسلحة والبرد اليمانية التي يتحدث بجودتها الشعراء، وكان موقعها الخصيب هذا على حافة الصحراء وفي نهاية الطريق الممتدة إليها من الحيرة. ويمكن اعتبار وصول النصرانية من خلال نجران التي يمكن اعتبارها مستوطنة بعيدة للكنيسة السورية. وكانت نجران تتميز من بين مدن جزيرة العرب بما في ذلك مدينتي مكة والمدينة بمركزها السياسي المرموق. وكان يحكمها مجلس ثلاثي مكون من السيد والعاقب والأسقف، فالسيد بمقام الرئيس وهو المسؤول عن الحروب والمعاهدات والضيافة وغير ذلك. والعاقب هو المسؤول عن الأمور الداخلية كالأشياء التي تمثل أعمال البلدية والأمن العام. أما الأسقف فيقوم بالإشراف على الإكليروس (رجال الدين) الذين كانوا يشكلون نسبة لا بأس بها من المجتمع، وكانت السلطة العليا بيد هؤلاء الثلاثة مجتمعين. 14
أما قبل النصرانية فكان أهل نجران على دين العرب يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم، لها عيد في كل سنة، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلى النساء ثم خرجوا إليها فعكفوا عليها يومًا. 15 قال ابن إسحاق: إن موقع ذلك الدين (النصراني) بنجران كان أن رجلًا من بقايا أهل دين عيسى بن مريم يقال له فيميون، وكان رجلا صالحًا مجتهدًا زاهدًا في الدنيا، مجاب الدعوة، وكان سائحًا ينزل بين القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه، وكان بناءً يعمل الطين وكان يعظم الأحد، فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئًا، وخرج إلى فلاة من الأرض يصلي بها حتى يمسي. قال: وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيًا، ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له صالح، فأحبه صالح حبًا لم يحبه شيئًا كان قبله، فكان يتبعه حيث ذهب. فانصرف يومًا، وتبعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدوا عليهما، فاختطفتهما سيارة من بعض العرب. فابتاع فيميون رجل من أشرافهم، وابتاع صالحا آخر، فكان فيميون إذا قام من الليل يتهجد في بيت له -أسكنه إياه سيده- يصلي، استسرج له البيت نورا حتى يصبح من غير مصباح. فرأى ذلك سيده، فأعجبه ما يرى منه، فسأله عن دينه، فأخبره به، وقال له فيميون: إنما أنتم في باطل، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده لأهلكها، وهو اللّٰه وحده لا شريك له. فقال له سيده: فافعل، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك، وتركنا ما نحن عليه. فقام فيميون، فتطهر وصلى ركعتين، ثم دعا اللّٰه عليها، فأرسل اللّٰه عليها ريحًا فجعفتها من أصلها فألقتها. فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى بن مريم عليه السلام، ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب. 16
ولما تنصر أهل نجران ولبثوا على النصرنية مدةً من الدهر فسار إليهم ملك من ملوك حمير، كان يهوديًا، وهو ذو نواس واسمه زرعة، ويسمى في زمان مملكته بيوسف، وهو ابن تبان أسعد أبي كرب وهو تبع الذي غزا المدينة، وكسى الكعبة، واستصحب معه حبرين من يهود المدينة، فكان تهود من تهود من أهل اليمن على يديهما. 17 فسار إلى أهل نجران ذو نواس بجنوده من حمير وقبائل اليمن، فجمعهم ثم دعاهم إلى دين اليهودية، فخيرهم بين القتل والدخول فيها، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم كل مثلة، حتى قتل منهم قريبًا من عشرين ألف نسمة. 18 يقول ابن كثير: قتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفًا، ولم ينج منهم سوى رجل واحد، يقال له دوس ذو ثعلبان، ذهب فارسًا، وطردوا وراءه فلم يقدروا عليه، فذهب إلى قيصر ملك الشام فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فأرسل معه جيشا من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، وذهب ذو نواس هاربًا فلجج في البحر فغرق، واستمر ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنةً. 19
كان لنجران معبد كبير أشبه بالكعبة في مكة، يتعبد فيه الناس، وإليه يحجون قبل العصر النصراني، وصار المعبد في آخر عصور الجاهلية أي قبيل ظهور الإسلام يدل على الكنيسة الكبيرة لتلك المنطقة أي: كاتيدرائية الأسقف. 20 كان أهل نجران يسمون هذه الكنيسة كعبة، والمشركون من العرب يأتون لزيارتها منذ أربعين سنةً، وقد بناها بنو عبد المدان الحارثي زمن الجاهلية على جبل تصلال في شمال شرق نجران على بعد خمس وثلاثين كلومترًا، وهي غير كعبة اليمن التي بناها أبرهة أشرم في الصنعاء. وقيل: دير نجران وهو المسمى كعبة نجران، كان لآل عبد المدان بن الديان، سادة بني الحارث بن كعب، وكان بنوه مربعًا مستوى الأضلاع والأقطار، مرتفعًا من الأرض، يصعد إليه بدرجة، على مثال بناء الكعبة، فكانوا يحجونه هم وطوائف من العرب، ممن يحل الأشهر الحرم، ولا يحجون الكعبة، وتحجه خثعم قاطبةً. 21 ووصفت بأنها عمارة فخمة مزخرفة بالرخام والفسيفساء المقدمين من الإمبراطور البيزنطي. 22
راجت النصرانية في جزيرة العرب قبل الإسلام، وكانت هناك عديد من القبائل في اليمن والشام، التي تنصر أهلها. فكانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة. 23 كأنهم تلقوا ذلك عن الروم، فقد كان العرب يكثرون التردد إلى بلادهم للتجارة، وقد اجتمع على النصرانية في الحيرة قبائل شتى من العرب يقال لهم العِبَاد. وكان بنو تغلب أيضًا من نصارى العرب، وكانت لهم شوكة وقوة، وقد صالحهم عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه في أيام خلافته على أن لا يغمسوا أحدًا من أولادهم في النصرانية ويضاعف عليهم الصدقة. فإذا وجب على المسلم شيء في ذلك فعلى النصراني التغلبي مثله مرتين، ونساؤهم كرجالهم في الصدقة فأما الصبيان فليس عليهم شيء وكذلك أرضهم التي كانت بأيديهم يوم صالحوا فيؤخذ منهم ضعف ما يؤخذ من المسلم. وأما الصبي والمعتوه فيؤخذ ضعف الصدقة من أرضه ولا يؤخذ من ماشيته ولا شيء عليهم في بقية أموالهم ورقيقهم. 24
أما من تنصر من أحياء العرب فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى وورقة بن نوفل بن أسد، ومن بني تميم إمرؤ القيس بن زيد مناة. 25 وذكر ابن هشام أن ورقة بن نوفل اتبع الكتب من أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب. 26 وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللّٰه أن يكتب. 27 كان الإنجيل قد نزل في اللغة السريانية وكان يترجمه إلى العبرية. وقيل: إلى العربية.
كانت النصرانية قبيل مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم محرفة، قد تحولت عن صورتها الأصلية الحقيقية السماوية التي كان مدارها على الوحي الإلهي، والتي جاء بها عيسى بن مريم عليهما السلام. فقد انقسمت النصرانية في ذلك الوقت إلى عدة فرق، تسرب منها إلى جزيرة العرب فرقتان، فكانت النسطورية منتشرة في الحيرة، واليعقوبية في غسان وسائر قبائل الشام. 28 وكانت معتقدات الطائفتين النسطورية واليعقوبية رائجةً في نصارى العرب. كان بنو تميم وبنو تغلب يعتقدون الحلولية، ويزعمون أن عيسى ومريم عليهما السلام شريكان في لاهوت اللّٰه. ويقولون: إن اللّٰه ثالث ثلاثة. وقد كفّرهم اللّٰه تعالى ورد عليهم وعلى عقائدهم ردا عنيفا: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ…… 7329 وللمسيحية أثر بالغ في ترويج الرهبانية في جزيرة العرب كما كان لها أثر بالغ في طباع العرب حيث مالت بعضها إلى عبادة الأكوان الطبيعية وبعضها إلى الرهبانية. كان حنظلة الطائي قد غادر القبيلة وسكن في دير له حتى مات فيه. وقس بن ساعدة كان يسكن في أمكنة مهجورة بعيدة عن العمران، لا يأكل إلا قليلًا، وتستأنس به الوحوش البرية. وقد روي نحو ذلك في عدي بن زيد وفي نعمان ملك الحيرة أيضًا. 30
بلغت النصرانية إلى العرب من فلسطين والشام، وانتشرت في أقطار العرب وأمصارها، وتنصر كثير من تجار العرب وخاصة أهل نجران؛ تأثرا بتعاليم النصرانية وعباداتها وصلواتها وأبنية الكنائس الشامخة وشأن الرهبان مكانة القسيسين، وبدعم الأمبراطوريتين العظيمتين الرومانية والبيزنطينية لها، وبدعم البلاد المسيحية من اليمن والحبشة لها، ودخلوا في الديانة المسيحية. وليس هناك شواهد قطعية تدل على أن النصرانية أصبحت ديانة عامة أو حركة روحانية، ولعل ذلك بسبب أن المقصد الأصلي وراء تبليغ النصرانية أن تهتدي الأغنام الضالة الإسرائيلية إلى الصراط المستقيم، ولكن عدم رواج الديانة في جزيرة العرب أتاح فرصةً للنصرانية أن اعتنقها بعض من ضاقت قلوبهم من الشرك والإلحاد كدين إلهامي، وبالنسبة إلى هؤلاء الأفراد كانت النصرانية ملجأً نهائيًا لجأوا إليه طواعيةً لا دعويةً. مع ذلك كانت النصرانية والنصرانيون في انتظار فارقليط الموعود، النبي الأخير، البشير النذير، ولما جاء هذا الموعود الذي كان ينتظره الجن والإنس، فانحرف المسيحيون كاليهود عنه وعما جاء به من شريعة إسلامية بناءً على أنه بعث في بني إسماعيل عليه السلام وأنه من بني هاشم على الرغم من أنهم كانوا عرفوه كما عرفوا أنفسهم وأبناءهم، ولذلك كان في قلوبهم حقد وضغينة، ثم مع مرور الزمان إما أسلم هؤلاء النصارى أو أخرجوا من جزيرة العرب، وهاجروا إلى دولة الرومان والبيزنطان.