كان في عصر ما قبل الإسلام صنف من العرب يعتقدون أن هذا الكون بما فيه السماء والأرض، الماء والهواء، والخلائق الموجودات، بأنواعها وأشكالها، خلقت بأنفسها، دون أن خلقها خالق أزلي قديم، عليم حكيم. ويعتقدون أن الحياة ليست إلا ما عشناه بالأمس ونعيشه اليوم، وسنعيشه غدا، وأن النجاح هو الاستمتاع بها، بأن ينال الإنسان مناصب جليلة، ولديه أموال كثيرة. ينكرون البعث بعد الموت، ويزعمون أنه لا برزخ ولا آخرة، ولا عقاب ولا ثواب بعد الموت. وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ241 يقولون: ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم، ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه. وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول. 2 قال ابن عيينة: كان أهل الجاهلية يقولون: الدهر هو الذي يهلكنا وهو الذي يحيينا ويميتنا، فنزلت هذه الآية. وقال قطرب: وما يهلكنا إلا الموت. 3
إنهم كانوا يزعمون أن تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك، ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار. 4 على الرغم من أن بعض الناس يسبون الدهر، وليس ذلك إلا استهزاء بشأن اللّٰه عز وجل. قال الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي اللّٰه عنه: (( قال اللّٰه: يسب بنو آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار )). 5 فكانوا يعتقدون أن الدهر هو المؤثر الحقيقي في الحوادث والوقائع، وكان بعضهم يسبون الدهر، وقد رد كل من القولين بأن المؤثر الحقيقي هو اللّٰه تعالى لا الدهر والدهر مخلوق محكوم تابع لما يأمره اللّٰه عز وجل.
الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه. 6 والدهري كلمة مشتقة من الدهر، أريد بها ما ورد في القرآن، وكذلك وردت كلمة الدهر في سورة الجاثية وفي سورة الدهر بنفس هذا المفهوم نظرًا إلى سياقها وسباقها. والدهريون في الاصطلاح فرقة من الكفار ذهبوا إلى قدم الدهر وإسناد الحوادث إليه، منكرين وجود الصانع المختار سبحانه وتعالى. 7
كان من عقائدهم أن الأشياء ليس لها أول ألبتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل، فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر. وقالوا: إن العالم لم يزل ولا يزال، ولا يتغير ولا يضمحل، ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلًا يبطل ويضمحل إلا وهو يبطل ويضمحل مع فعله، وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي فيه، وهؤلاء هم المعطلة حقًا. 8
كان الدهريون صنفا من معطلة العرب، أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي، والدهر المفني، وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا…… 249 إشارةً إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي، وقصرًا للحياة والموت على تركبها وتحللها، فالجامع هو الطبع، والملك هو الدهر. 10 كانوا كثيرين من العرب في الجاهلية، وقد كان في قريش منهم قوم. قال ابن عبد البر: أما أهل الجاهلية فإنهم كانوا منهم دهرية زنادقة، لا يعقلون ولا يعرفون اللّٰه ولا يؤمنون، وفي قريش منهم قوم وصفهم أهل الأخبار. 11 وكان منهم الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، كان يقول: لقد غر محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، واللّٰه، ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث. 12 كان الدهريون يعطلون المصنوعات من صانعها، لا يؤمنون باللّٰه تعالى ولا باليوم الآخر ولا بالمبدأ والمعاد، ولا بالبرزخ والآخرة، ولا بالجزاء والعقاب، يعتقدون أن الدهر هو الذي يؤثر في العالم، يحيينا ويهلكنا، وأن ليس في تكوين نظام العالم ولا تنسيقه دخل لإله خالق ومالك.