تشير الأدلة التاريخية إلى بدء ورود اليهود في جزيرة العرب زمن موسى عليه السلام أي: قبل القرن الثالث عشر من الميلاد. وأكثر المؤرخين يرون بداية ورودهم قبل خمسمائة وست وثمانين سنة من الميلاد، وذلك عند ما أغار عليهم بختنصر، ودمّرهم واستولى على بيت المقدس وخرّب الهيكل وأحرق التوراة، وتؤيد هذا الرأي موسوعة اليهود أيضًا، وهي وثيقة مهمة في تاريخ اليهود. فبعد ما ضربت عليهم الذلة والمسكنة هاجروا صاغرين هاربين من عذاب بخت نصر إلى جزيرة العرب، فأقام بعضهم باليمن، واستوطن بعضهم مناطق خضراء في يثرب وخيبر وأقاموا بها. ثم بعد مضي بضعة أجيال، تصبغوا بصباغة العرب وتثقفوا بثقافتهم وتحضروا بحضارتهم، وتكيفوا بطباعهم اليهودية في قالب العرب مطعما ومشربا ومسكنا وملبسا حتى أصبحت أسماؤهم أسماء عربية، ثم أخذوا يستغلون القبائل العربية المضيفة بعد استقرارهم في مناطقهم، وبطبيعتهم الماكرة شنوا بين قبائل يثرب حربا متواصلة لم يسبق له نظير في تاريخ العالم.
تشير صحف أخبار الأيام إلى أول هجرة مشهورة في تاريخ اليهود إلى بلاد الحجاز، حيث أن بطون بني شمعون سارت إلى شرقي الوادي (طور سيناء) ليبحثوا لماشيتهم مرعى، فوجدوا مرعى خصبا وجيدا، وكانت الأرض واسعة الأطراف مستريحة ومطمئنة، وقد تمت هذه الهجرة في أيام حزقيا ملك يهوذا. 1
وقال بعض المؤرخين: إن بني قريظة وبني النضير الكاهنين من ولد الكوهن بن هارون عليه السلام، كانوا بنواحي يثرب بعد موسى عليه السلام وقبل تفرق الأزد من اليمن بسيل العرم ونزول الأوس والخزرج يثرب وذلك بعد الفجار. وأوردوا في هذا الصدد رواية طويلة، وفيها: كان ساكنو المدينة عماليق وهم أهل عدوان وبغي، وتفرقوا في البلاد، وكان بالمدينة منهم بنو نعيف وبنو سعيد وبنو الأزرق وبنو نظرون، وملك الحجاز منهم الأرقم ما بين تيماء إلى فدك، وكانوا ملوك المدينة، ولهم بها نخل وزرع، وكان موسى عليه السلام قد بعث الجنود إلى الجبابرة يغزونهم، وبعث إلى العمالقة جيشا من بني إسرائيل، وأمرهم أن لا يستبقوا أحدا، فأبقوا ابنا للأرقم ضنوا به على القتل، فلما رجعوا بعد وفاة موسى عليه السلام، وأخبروا بني إسرائيل بشأنه، فقالوا: هذه معصية، لا تدخلوا علينا الشام، فرجعوا إلى بلاد العمالقة، ونزلوا المدينة، وكان هذا أولية سكنى اليهود بيثرب. 2
ويرى بعض الإخباريين أن ابتداء أمر اليهود في الحجاز ونزولهم وادي القرى وخيبر وتيماء ويثرب إنما كان في أيام بخت نصر، فلما جاء بخت نصر إلى فلسطين، هرب قسم منهم إلى بلاد الحجاز واستقروا بها إلى مجيء الإسلام. 3 فهروب اليهود من بخت نصر إلى أعالي الحجاز ودخولهم الحجاز أمر سهل يسير، فالأرض واحدة وهي متصلة والطرق مفتوحة مطروقة، ولا يوجد أي مانع يمنع اليهود أو غير اليهود من دخول الحجاز. لا سيما وأن اليهود كانوا خائفين فارين بأنفسهم من الرعب، فهم يبحثون عن أقرب ملجأ إليهم يحميهم من فتلك ملك بابل بهم. وأقرب مكان مأمون إليهم هو الحجاز.
على كل حال، لا يمكننا تحديد استيطان اليهود لبلاد الحجاز، لوقوع الاختلاف في الروايات، مع ذلك يمكن أن كان هجرتهم إلى بلاد العرب غير مرة، لكن الأمر المشترك بين الروايات المختلفة المتعارضة أن اليهود لم يغادروا ديارهم وأوطانهم ولم يهاجروا إلى بلاد الحجاز؛ طلبا لرضا اللّٰه، ولا إطاعةً لرسوله، بل أخرجوا من ديارهم صاغرين ذليلين؛ لعصيانهم المستمر وقتلهم الأنبياء، فكانوا بصدد الحفاظ على حياتهم من الهلاك فتوجهوا إلى هذه النواحي الجافة؛ ليكن عيشهم في أمن وسلام، وراحة وطمأنينة. وقد كان فيهم بعض من هاجر في طلب الإيمان بخاتم النبيين، ينتظرون ما ورد في التوراة من أن يثرب هي مهاجر خاتم الأنبياء صلى اللّٰه عليه وسلم.
في بداية الأمر انتشرت اليهودية في يثرب ونواحيها فقط، ثم انتشرت في الأقطار الأخرى من الجزيرة العربية واتسع نطاقها حتى نفذت في اليمن كديانة رسمية، فتسللت إلى المناطق المجاورة لها. ولما جاء الإسلام فأصبحت على جانب عظيم من الخطورة في الجزيرة العربية. فاليهودية لم تكن مثل النصرانية في الشهرة والكثرة إلا أنها قد حازت رتبة الديانة المستقلة جنبا إلى جنب مع الأديان الأخرى، ومعظم اليهود كانوا يسكنون في أطراف يثرب حتى خيبر، وبالرغم من أقلية اليهود استولوا على النفوذ السياسي والاقتصادي بالمؤامرات البشعة، وبتخطيط مؤامرة البغضاء والشحناء بين أهل يثرب من خلال نظام المصرف الربوي وتصنيع الأسلحة. بالإضافة إلى ذلك كانت اليمن أيضًا مركزا رئيسًا لهم، وكان سبب نفوذ اليهودية ونشرها في اليمن ملكهم تبع أسعد أبا كرب والحبرين الكبيرين، الذين لعبوا دورا فعالاً في نشر اليهودية في اليمن حتى أصبحت ديانة رسمية لها إلى قرون فيما بعد.
يذكر الطبري في هذا الصدد: كان تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وقد كان حين مر بها في بدأته لم يهج أهلها، وخلف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها، واستئصال أهلها وقطع نخلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره ليمتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلة، أحد بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول، فخرجوا لقتاله وكان تبع حين نزل بهم، قد قتل رجل منهم -من بني عدي بن النجار يقال له أحمر- رجلا من أصحاب تبع، وجده في عذق له يجده، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبره، ثم ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة يقال لها: ذات تومان فزاد ذلك تبعا عليهم حنقا. فبينا تبع على ذلك من حربه وحربهم يقاتلهم ويقاتلونه، إذ جاءه حبران من أحبار يهود من بني قريظة، عالمان راسخان حين سمعا منه ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك؟ فقالا: هي مهاجر نبى يخرج من هذا الحي من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره. فتناهى عند ذلك من قولهما عما كان يريد بالمدينة، ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة، وخرج بهما معه إلى اليمن واتبعهما على دينهما وكان اسم الحبرين كعبا وأسدا، وكانا من بني قريظة. 4
إن الديانة اليهودية لم تعتمد في بلاد اليمن على العصبية اليهودية كما كان شأنها في البلاد الحجازية؛ لأن الأغلبية المطلقة التي كونت أنصار هذا الدين الجديد في اليمن كانت من سكان البلاد الأصليين. وقد اضطربت أقوال المؤرخين في أسباب ظهور الديانة اليهودية في ربوع بني حمير، فطائفة منهم ترى أن ظهورها كان نتيجة لنضال عنيف وقع بين اليهودية والنصرانية تمكنت فيه الأولى من أن تتغلب على الأخرى في بادئ الأمر. وطائفة أخرى تعترف بأن للعامل الديني أثرا ظاهرا، ولكنها ترجّح أن الباعث الأصلي إنما هو سياسي قبل كل شيء، وهذا الباعث الأصلي هو أن ملوك الدولة الرومانية الشرقية بعد أن فرغوا من أمر الأقاليم المجاورة للجزيرة العربية تأهبوا لضم أطرافها إلى أملاكهم فسلكوا لتنفيذ هذا الغرض طريقة سياسية محكمة حيث أرسلوا وفودا من الرهبان إلى تلك البلاد، وأمروهم أن يبثوا التعاليم المسيحية بين أهل الحضر والبادية من جهة، ويمهدوا الأفكار والنفوس لقبول التسلط السياسي الروماني من جهة أخرى، فلما تنبه ملوك حمير لهذه الحيل وأدركوا ما يتعرض له كيانهم السياسي من الخطر الشديد بسببها نشطوا لإحباطها وفكروا في أمضى الأسلحة التي تمكنهم من القضاء عليها، فهداهم إلى أن يعتنقوا للديانة اليهودية ليقاوموا دينا توحيديا بدين توحيدي آخر. 5
كانت مساكن اليهود في شتى مناطق العرب، كخيبر والمدينة المنورة والطائف ومقنا وتيماء وجرش ووادي القرى، وكذا كانت في عمان والبحرين. كانوا يعيشون في قلاع مسورة، حصينة مرتفقة، بالاكتفاء الذاتي، في الرخاء الاقتصادي، يغلقون عليهم بوابات القلاع ويحصرون فيها؛ لفترة طويلة، حين المخاطر والحصار، معتمدين على ما كانت لديهم من الوسائل الغذائية الداخلية، وكانت أشهر القبائل اليهودية عند مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في العرب بني النضير وبني المصطلق وبني قينقاع وغيرها من القبائل. يقول ابن قتيبة: كانت اليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة. 6 ولعلها سرت إليهم من مجاورة اليهود لهم في يثرب وخيبر وغير ذلك. 7 وقد كانت اليهودية في نجد وفي ومواضع من العربية الجنوبية، فلما ارتد بنو وليعة والأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية الكندي، وتحصن الأشعث في النجير، وهو حصن لهم، كانت فيه امرأة من يهود، عرفت بشماتتها بوفاة الرسول، اسمها هند بنت يامين اليهودية، مما يدل على وجود اليهود في هذا المكان. 8
كان وضع اليهودية في شبه الجزيرة العربية عند طلوع فجر الإسلام قد اختلف تماما عما كانت عليه اليهودية الأصلية الخالصة، وذلك أن ديانة اليهود وحضارتهم وثقافتهم قد تعرضت لتغيرات كبيرة بارتباطهم وإقامتهم مع العرب إلى زمن طويل، فديانة اليهود وإن كانت سماويةً إلا أنها وقع فيها التحريف والتبديل فبقيت منها طقوس وعادات، وعقائد باطلة زائغة، منها ما ذكرت في القرآن: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ…… 309 وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً…… 8010 وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ 1811 وكل هذه العقائد والعادات والعبادات اختلق لهم أحبارهم الأميون. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ 78 فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ 7912 ……وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ…… 4113 وقد رد اللّٰه كل هذه الظنون والزعوم بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 6214
ويلاحظ أن يهود الجاهلية لم تحافظ على يهوديتهم ولا على آدابهم وعاداتهم التي تخصصهم، وتميزهم، فأكثر أسماء القبائل والبطون والأشخاص هي أسماء عربية، فمن الأسماء قد تكون من أصل عبراني، زعورا وهم اسم عبراني متأثر بلهجة بني إرم، يساف وقد يكون من يوسف، ونبتل وقد يكون من نفتالي، وأسماء أخرى لم تتمكن من المحافظة على أصلها العبراني، فتأثرت بخواص اللسان العربي، وليس بين أسماء البطون اليهودية الأحد عشر التي كانت في الحجاز في أيام ظهور الإسلام اسم تظهر عليه الملامح العبرانية غير الاسم الذي ذكر وهو زعوراء. 15 وأشعار اليهود أيضا كانت تحمل طابعا وفكرا عربيين، ولم يكونوا يختلفون عن العرب في اجتماعهم وسياستهم ولا في شيء آخر، فعاشت اليهود في جزيرة العرب عيش سكانها، تصاهروا فيما بينهم، فتزوج اليهود عربيات، وتزوج العرب يهوديات، ولعل كون بعض يهود من أصل عربي هو الذي ساعد على تحطيم القيود التي تحول بين زواج اليهود بالعربيات وبالعكس، والفرق الوحيد الذي كان بين العرب واليهود عند ظهور الإسلام هو الاختلاف في الدين، وقد تمتع اليهود بحرية واسعة لم يحصلوا عليها في أي بلد آخر من البلاد التي كانوا بها في ذلك العهد. وبالرغم من أنهم كانوا على معرفة من أمارات مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم حيث تنتقل فيهم البشارات جيلا عن جيل، لم يصدقوه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم بل كذبوه وكذبوا الأمارات وحرفوا في التوراة. بالإضافة إلى ذلك شمروا لعداوته وعلى مخالفته صلى اللّٰه عليه وسلم، ولسيت هذه الشقاوة إلا نتيجة تحريفهم في التوراة وأحكامها وتغيير دينهم بالكفر والشرك؛ اتباعا بالأهواء النفسانية ومخالفة للأحكام الإلهية.