Encyclopedia of Muhammad

النثر الجاهلي

كان العرب أمةً أميةً لا تقرأ ولاتكتب، ومناط علومهم ومعارفهم حفظهم القوي وذهنهم الثاقب، على الرغم كانوا متصفين بصفات متمدنة وفضائل متحضرة من أنواع معالجات الآداب، كالبراعة في الشعر والبلاغة في الخطابة والفصاحة في الأمثال وغيرها من أساليب أدبية، لذلك لم يضطروا للمحة أن يستشرفوا إلى أمة أخرى في أخذها وتعلمها منهم، وافتنوا في أساليب الآداب الفنية دون أية استفادة من أحد، ومن فنونهم الأدبية "النثر الجاهلي".

النثر على نوعين: نثر عادي، ونثر فني، كان النثر متداولًا في العصر الجاهلي بنوعيه، ولم يكن العامي ذا أهمية أدبية بينما الفني كان مهتمًا بالشأن، وأهميته كانت مسلمة لدى الجميع، وإنه كان مشتملًا على القصص، والخطابة، والأمثال، والوصايا، والحِكم، وسجع الكهان وغير ذلك، وكان من أفضل أنواع الأدب لديهم حكاية القصص وأساطير الأولين، ومن أحوجهم إليه الخطابة، والأمثال حوارهم اليومي، والوصايا كعرف عام لهم، وسجع الكهان جزء من أدبهم الفني الغامض.

ولا بد من إلقاء لفتة على أن الأدب العربي لم يكن مدونًا آنذاك، فإن القراء والكتّاب فيهم نبذة من الرجال، ولم يكن غرضهم وراء ذلك تقديم الخدمات تجاه الأدب العربي، بل كانت لهم أغراض سياسية وتجارية، نعم! إنهم كانوا يأخذونها شفويًا جيلًا عن جيل، لذلك معظم ما وصل إلينا من أدبهم أنواع فنية أسهل الحفظ، أما ما كان منها أصعب الحفظ فروينا بالمعنى.

معنی النثر

الكلام الجيد يرسل بلا وزن ولا قافية وهو خلاف النظم، 1 وكل ما ليس شعرًا فهو نثر، 2 وقيل: هو الجزء المقابل للشعر من أجزاء الكلام، 3 والنثر على ضربين: النثر العادي والنثر الفني، وقد تحقق كل منهما في عهد الجاهلية.

النثر في عهد الجاهلية

كان للجاهليين نثر، يتكلمون به في شؤونهم وتصريف أمورهم، 4 وهذا الضرب (العادي) لا يعد شيء منه أدبًا إلا ما قد يجري فيه من أمثال، 5 والعرب في الجاهلية أمة أميّة قل فيها القارئ والكاتب، 6 وليس معنى ذلك أنهم لم يعرفوا القراءة والكتابة، فقد عرفوهما غير أن صعوبة وسائلها جعلتهم لايستخدمونها في الأغراض الأدبية الشعرية والنثرية، ومن ثم استخدموها فقط في الأغراض السياسية والتجارية، 7 وكذلك كتبت في أغراض أخرى، كتبت في تقديم نذور، وفي معاملات: من بيع وشراء، وتثبيت ملك، أو تحديد حدود، أو في قوانين وأوامر، ولم تكتب في أغراض أدبية خالصة، 8 وليس معنى ذلك أن النثر الفني لم يعرفوه، بل كانوا بارعين فيه، على أن الذي قالوه من النثر في جاهليتهم لم يصل إلينا وافرًا وفرة الشعر؛ لأن الأدب الجاهلي روي أول مرة عن أمره من طريق المشهافة، ينقله راو عن راو سماعًا، ولم يدون إلا في العصر العباسي الأول، والذاكرة أقدر على حفظ الشعر وروايته من حفظ النثر وروايته؛ لأن ما للشعر من أوزان وقواف يعين على استذكاره وضبطه، وإذا أخطأت الذاكرة فيه فكلمة موضع كلمة، أو شطر موضع شطر؛ ولكن جوهر القصيدة سليم غالبًا، وليس كذلك النثر، وما روي لنا من نثرهم أنواع، قصص تروى فيه أخبارهم وأيامهم ومفاخرتهم... ومواعظ دينية... ولكن أكثر المأثرو المأثور من النثر الجاهلي هو الخطب والأمثال. 9

القصص

معظم النثر الجاهلي كان قصصًا وحكايات وأساطير كما أنه وجدت عندهم ألوان مختلفة من القصص والأمثال والخطابة وسجع الكهان، ومن المؤكد أنهم كانوا يشغفون بالقصص شغفًا شديدًا، وساعدتهم على ذلك أوقات فراغهم الواسعة في الصحراء، فكانوا حين يرخي الليل سدوله يجتمعون للسمر 10، 11 والسمر الحديث بالليل. 12

فكانوا يروون أنواعًا مختلفةً من القصص، تروى فيها أخبارهم وأيامهم ومفاخرتهم، 13 ومن أبواب القصص، المقال على ألسنة الحيوانات، كالقصص المقال على لسان "النعامة"، من أنها ذهبت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين، والقصص الذي وضعوه عن الغراب، وعن الضفدع، والهدهد، والهديل، وغير ذلك مما يميل إليه العامة بصورة خاصة، 14 ومن قصصهم، قصص الملوك والأبطال وسادات القبائل والأيام، وقصص عن الأسفار وعن مشقات السفر، وقصص لهم أصل تاريخي؛ لكنه لم يحافظ على نقاوته وأصله، وقصص الأقوام القديمة التي بقيت ذكرياتها في أذهان الجاهليين، وقصص النوادر والنكات من القصص المعروفة عند أهل الجاهلية، وأخرى كثيرة وكثيرة أخرى.

ولكن يظهر أن هذا النوع كثيرًا ما تكون ألفاظه ألفاظ الراوي، احتفظ بالمعنى وراوه من لفظه، 15 ومن غير شك كان يفيض القصاص على في قصصه من خياله وفنه، حتى يبهر سامعيه، وحتى يملك عليهم قلوبهم فيحولهم من الشفقة إلى محبة الانتقام ومن الضحك إلى الجِدِّ، وعيونهم تلمع في وجوههم السمر وقلوبهم تخفق من آن إلى آن. 16

القصص المستعارة

وهناك نوع من قصص العرب، أخذوه من أمم أخرى، وصاغوه في قالب يتفق ذوقهم، كقصة شريك مع المنذر، وأنه أتاه في يوم بؤسه رجل يقال له: حنظلة، فأراد قتله فطلب منه أن يؤجله سنة، فقال: ومن يكفلك؟ فكفله شريك بن عمرو، فلما كان من القابل جلس في مجلسه ينتظر حنظلة فلم يأت، فأمر بشريك فقرب ليقتله فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليه فتأملوه فإذا هو حنظلة، فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما، وأبطل تلك السنة... إلخ، فإن لهذه القصة أصلًا يونانيًا معروفًا، 17 وبعض القصص الشائعة المتواترة عن الجاهليين، مثل قصة "يومي البؤس والنعيم"، وقصة "شريك" مع الملك "المنذر"، وقصة "سنمار" وأمثال ذلك، قصص وإن اقترن بأسماء جاهلية، إلا أن أصوله غير عربية، دخلت العرب من منابع خارجية، من منابع يونانية وفارسية ونصرانية، وهو أيضًا من القصص الواردة عند شعوب أخرى بدليل وجود شبه ومثيل له في أساطير الأعاجم، وفي حكايات النصارى. 18

الخطابة

أكثر المأثرو المأثور من النثر الجاهلي هو الخطب والأمثال، 19 والخطابة كالشعر لحمتها الخيال وسداها البلاغة، وهي مظهر من مظاهر الحرية والفروسية، وسبيل من سبل التأثير والإقناع، تحتاج إلى ذلاقة اللسان، ونصاعة البيان، وأناقة اللهجة، وطلاقة البديهة، 20 وقد كان للخطيب عندهم- كما يقول أهل الأخبار- مقام كبير للسانه وفصاحته وبيانه وقدرته في الدفاع عن قومه والذب عنهم والتكلم باسمهم، فهو في هذه الأمور مثل الشاعر، لسان القبيلة ووجهها، 21 والحياة الجاهلية جعلت الخطابة ضرورية لهم، فهم في اجتماعاتهم وفي عرض آرائهم، وفي القيام بواجباتهم في السفارات والوفود كانوا- ولا شك- يحتاجون إلى الإفصاح عما يريدونه؛ رغبةً في الوصول إلى مقاصدهم، وكلما كان إفصاحهم أقوى وأعذب كان تأثيره في القلوب أشد، فساعد ذلك على وجود الخطابة بينهم. 22

مكانة الخطيب

قد ينبرون في الأسواق العظام ينصحون قومهم ويرشدونهم، على نحو ما هو معروف عن قُس وخطبته بسوق عكاظ، وربما نصح الخطيب عشيرته وقومه الأقربين، كبعض ما يروى عن عامر بن الظرب وأكثم بن صيفي. 23

وأكثر ما روي لنا من الخطب الجاهلية كان يدور حول أحد الأمرين، الأول: المنافرة، وهو أن يفخر رجل على رجل أو قبيلة على قبيلة فيتنافرا إلى حكم يحكم بينهما، وقبل الحكم يقوم كل خطيبًا يعدد مفاخره أو مفاخر قومه، فكان ذلك مجالًا صالحًا للخطيب يستعرض فيه بلاغته وفصاحته، والثاني: الوفود، فقد كان شائعًا عند العرب وفودهم على الملوك والأمراء في حاجاتهم، كالذي روي في كثير من الأحيان من إيفاد الوفود لملوك الحيرة إذ كانوا مقصد العرب. 24

أسلوب الخطابة

كما كان خطبائهم ينبرون أماكن مرتفعة، فيقومون بتلال الرمال، يخطبون بصوت عال، يأتون في خطبهم بالكنايات والتشبيهات، ويأخذون عصاهم يسندون إلى الرماح مرةً وأخرى إلى الصخور، 25 وقد يخطبون عل رواحلهم، والعصا أو السلاح في يد الخطيب إشارةً إلى أوضاع مخصوصة من أمن وحرب، فكانوا إذا خطبوا وقفوا وفي أيديهم العصا في السلم، والقوس في الحرب، 26 وذكر أن من المستحسن في الخطيب أن يكون جهوري الصوت، قليل التلفت، نظيف البزة، وأن يخطب قائمًا على نشر من الأرض، أو على راحلته، وأن يحتجز عمامته، ويكمل هذه الخصال شرفالأصل وصدق اللهجة. 27

أشهر الخطباء

كان من أشهر الخطباء الجاهليين قُس بن ساعدة الأيادي وسحبان بن وائل الباهلي، وكان سحبان يضرب بفصاحته وخطابته المثل، فيقال: أخطب من سحبان، ويقال: إنه كان إذا خطب يسيل عرقًا، ولا يعيد كلمةً ولا يتوقف ولا يقعد حتى ينتهي من كلامه، ومن خطباء تميم المشهورين: ضمرة بن ضمرة، وأكثم بن صيفي، وعمرو بن الأهتم المنقري، وقيس بن عاصم، 28 وجماعة أخرى من خطبائهم: كحاجب بن زرارة، والحارث بن ظالم، وقيس بن مسعود، وخالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل. 29

نظير الخطب

يمكننا أن نعرف روعة خطبهم وفصاحتها وبلاغتها من خطبة هاشم بن عبد مناف يحث قريشًا على إكرام زُوار بيت الله الحرام، رووا أن هاشم بن عبد مناف كان يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الحجة، فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيخطب قريشًا، فيقول:

  یا معشر قریش! أنتم سادة العرب، أحسنها وجوهًا وأعظمها أحلامًا وأوسطها أنسابًا وأقربها أرحامًا. یا معشر قریش! أنتم جیران بیت الله، أكرمکم بولایته وخصکم بجواره دون بني إسماعیل، وحفظ منکم أحسن ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضیفه وزوار بیته، فإنهم یأتونکم شُعثًا غُبرًا من كل بلد، فورب هذه البنیة! لو كان لي مال یحمل ذلك لکفیتکموه، ألا وأني مخرج من طیب مالي وحلاله مالم یقطع فیه رحم ولم یؤخذ بظلم ولم یدخل فیه حرام فواضعه فمن شاء منکم أن یفعل مثل ذلك فعل، وأسألکم بحرمة هذا البیت، ألا یخرج رجل منکم من ماله لکرامة زوار بیت الله و معونتهم إلا طیبًا ولم یؤخذ ظلمًا ولم یقطع فیه رحم ولم یغتصب. 30

ومن الخطب التي تحرض على القتال خطبة هانئ بن قبيصة في يوم ذي قار، يحرض قومه بكرًا على القتال، ومنها:

  یا معشر بکر! هالك معذور خیر من ناج فرور، إن الحذر لا ینجي من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنیة، استقبال الموت خیر من استدباره، الطعن فی ثغر النحور أكرم منه فی الأعجاز والظهور، یا آل بکر! قاتلوا فما للمنایا من بد. 31

أما أسلوبها فكان رائع اللفظ، خلاب العبارة، واضح المنهج، قصير السجع، كثير الأمثال، وهم إلى قصارها أميل لتكون أعلق بالصدور وأذيع. 32

الأمثال

الأمثال عبارة عن الجمل المستنبطة من تجارب القوم بكل إيجاز واختصار كما ذكر في المفصل في تاريخ الأدب العربي عنها: أما الأمثال فجمل رصينة جمعت فيها تجارب الأمة، واجتمع فيها إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه. 33 فالمثل جملة منقطعة من القول أو مرسلة بذاتها، تنقل عمن وردت فيه إلى مشابهه بدون تغيير، 34 وسامعه يفهم من جملة قصيرة وقعة طويلة، وكما مر آنفًا أن أكثر المأثور من النثر الجاهلي الخطب والأمثال. 35 ولا بد للأمثال من أصل تكون قد جاءت بسببه، وقد يكون ذلك الأصل حقيقيًا، وقد يكون فرضيًا، وذلك (الفرضي) إن قيل عن حيوان أو نبات أو جماد، وتسمى أمثال النوع الأول حقيقية، والأخرى فرضية. 36

وإنما وضعت الأمثال الفرضية إذا تجاوز ظلم الملوك وعدوانهم على رعيتهم من نواحٍ شتى فيضطر أرباب الفكر والنظر أن يقولوا بمثل عن حيوان ما؛ مخافةً من ظلم الملك الجابر، 37 كما أنهم كانوا يخفون أنفسهم فيقولونها عن الحيوان، وهي طريقة فريدة لإبلاغ رسالتهم إلى المجتمع العام وإخفائهم من الظلم والعدوان.

نماذج من الأمثال الجاهلية

الأمثال العربية المتداولة في عهد الجاهلية كلها كانت رائعةً رائقةً تجدر بالذكر والحفظ إلا أننا نقدم بعضها كنموذج للجميع في الفصاحة والبلاغة؛ ليتيسر معرفة مزياتها الكامنة فيها:

الأول: إذا سَلمتِ الجلة فالنيبُ هدرٌ، أي: إذا سلم ما ينتفع به هان ما لاينتفع به.

الثاني: تجشّأ لقمان من غير شِبَع، يضرب لمن يدعي ما ليس يملك.

الثالث: ربَّ كلمة تقول لصاحبها دعني، يضرب في النهي عن الإكثار مخافة الإهجار.

الرابع: أسَرْ حسوًا في ارتغاء، يضرب لمن يريك أنه يعينك وهو يجر النفع إلى نفسه، وأصله أن الرجل يؤتى باللبن فيظهر أنه يريد الرغوة خاصة فيشربها وهو في ذلك ينال من اللبن.

الخامس: إذا كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً، يضرب للمدل بنفسه إذا مني بمن هو أدنى منه.

السادس: إنك لا تجني من الشوك العنب، أي: لا تجد عند ذي المنبت السوء جميلًا.

السابع: ذكرني فوك حمارَيْ أهلي، أصله أن رجلًا خرج يطلب حمارين ضلا له، فرأى امرأةً فأعجبته، فنسي الحمارين، فلما أسفرت عن وجهها رأى فمها قبيحًا فقال هذا المثل.

الثامن: رمتني بدائها وانسلَّتْ، يضرب لمن يعير الآخر بما يعير هو به.

التاسع: أوسعتهم سبّاً وأودَوْا بالإبل، أصله أن رجلا أغير على إبله فإخذت، فلما توارى المغيرون بها صعد أكمة وجعل يسبهم، ثم رجع إلى قومه فسألوه عن إبله، فقال هذا المثل.

العاشر: أَحَشفاً وسوء كيلةٍ، يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين.

الحادي عشر: قد يحمل العَير من ذعر على الأسد، يضرب لمن يأخذه الدهش والروع فحمله على ما ليس من طبعه.

الثاني عشر: قبل الرَّمي يُراش السهم، يضرب للاستعداد للأمر قبل نزوله. 38

هذه نماذج من الأمثال التي تقولها العرب في عهد الجاهلية حينًا فحينًا، وسامعها يتنبه لما خفيت فيها من المعاني والمفاهيم والأسرار، وبعضها متداولة لديهم إلى مدة مديدة.

الحِكم

والحكم أيضًا نوع من النثر الفني في عهد الجاهلية، وهي في الحقيقة أقوال الحكماء والعقلاء، يعبر عنها في العرف بالأقوال الذهبية الحكيمة، والحكمة قول رائع رائق خلاب يتضمن حكمًا صحيحًا مسلمًا به، تدل- بناء على مرور التجارب وتحمل المتاعب- على أمر لا ينكره أحد، وكان من أشهرهم في الحكم أكثم بن صيفي وعامر بن ظرب العدواني بينما ابنة عامر بن ظرب وهند بن خس أيضًا من النساء اللاتي أثرت عنها الحكم في كتب التاريخ، وننقل هنا بعض أقوالهم الحكيمة المأثورة عنهم:

من أقوال أكثم بن صيفي

أكثم بن صيفي التميمي كان معدودًا من العقلاء الحكماء عند العرب، واشتهرت له عشرات أقوالٍ مليئة بالحكمة، منها:

الأول: ويل للشجي من الخلي.

الثاني: لم يذهب من مالك ما وعظك.

الثالث: رُبَّ عجلة تهب ريثًا.

الرابع: ادرعوا الليل فإنه أخفى للويل.

الخامس: إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد.

السادس: ليس من العدل سرعة العذل.

السابع: لا تطمع في كل ما تسمع.

الثامن: رب قول أنقذ من صول.

التاسع: حافظ على الصديق ولو في الحريق. 39

أقوال عامر بن ظرب

وكان من حكماء العرب عامر بن ظرب التي كانت أقواله الرائعة متدالة على ألسنة الناس، ونذكر منها قولين على سبيل المثال:

الأول: رب زارع لنفسه حاصد سواه.

الثاني: من طلب شيئا وجده، وإن لم يجده أوشك أن يقع قريبا منه. 40

من أقوال الحكماء الأخرين

أما الحكماء الآخرون غيرهما فكثير في مجتمع العرب الجاهلي، وقد أثرت أقوالهم الحكيمة في أوراق التاريخ، منها:

الأول: رضا الناس غاية لا تدرك. 41

الثاني: كلْم اللسان أنكى من كلْم السنان.

الثالث: رب ملوم لا ذنب له.

الرابع: اترك الشر يتركك.

الخامس: العتاب قبل العقاب.

السادس: من سلك الجدد أمن العثار.

السابع: أول الحزم المشورة.

الثامن: من ضاق صدره اتسع لسانه.

التاسع: يدك منك وإن كانت شلاء. 42

وقد نطلع في نثر العرب الجاهلي على الوصايا، وتفصيلها فيما يلي:

الوصايا:

الوصية بمعنى النصح والإرشاد والتوجيه، وهي قول بليغ مؤثر، ويتضمن حثًا على سلوك طيب نافع، حبًا فيمن توجه إليه الوصية، ورغبةً في رفعة شأنه وجلب الخير له، وعادةً تكون من أولياء الأمور وبخاصة الأب والأم لأبنائهما عند حلول الشدائد، أو حدوث الأزمات أو الإحساس بدنو الفراق، وهي نتيجة الخبرة الطويلة والملاحظة الدقيقة، والعقل الواعي والتفكير السليم ويدفع إليها المودة الصادقة والحب العميق. 43

وصية عامر بن ظرب:

أوصى عامر بن ظرب قومه بوصية تالية: يا معشر عدوان: لا تشمتوا بالذلة، ولا تفرحوا بالعزة، فبكل عيش يعيش الفقير مع الغني، ومن ير يومًا ير به، وأعدوا لكل أمر جوابه، إن مع السفاهة الندم، والعقوبة نكال، وفيها ذمامة، ولليد العليا العاقبة، وإذا شئت وجدت مثلك، إن عليك كما أن لك، وللكثرة الرعب، وللصبر الغلبة، ومن طلب شيئًا وجده، وإن لم يجده أوشك أن يقع قريبًا منه. 44 يتضح من وصيته أنها من أهم أجزاء الأدب الجاهلي، والعرب يهتمون بها منذ زمن قديم.

وصية زهير بن جناب الكلبي:

أوصى زهير بن جناب الكلبي بنيه فقال:

يا بني: قد كبرت سني، وبلغت حرسًا من دهري، فأحكمتني التجارب، والأمور تجربة واختبار، فاحفظوا عني ما أقول وعوه، إياكم والخور عند المصائب، والتواكل عند النوائب؛ فإن ذلك راعية للفهم، وشماتة للعدو، وسوء ظن بالرب، وإياكم أن تكونو بالأحداث مغترين، ولها آمنين، ومنها ساخرين؛ فإنه ما سخر قوم قط إلا ابتلوا؛ ولكن توقعوها، فإنما الإنسان في الدنيا غرض تعاوره الرماة، فمقصر دونه، ومجاوز لموضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لا بد أنه مصيبه. 45

الرسائل الأدبية:

ليس بين أيدينا وثائق جاهلية صحيحة تدل على أن الجاهليين عرفوا الرسائل الأدبية وتداولوها، وليس معنى ذلك أنهم لم يعرفوا الكتابة، فقد عرفوها... وبعض الأخبار يفيد أنه كان عندهم صحيفة بها بعض أمثال وحكم مما كانوا ينسبونه إلى لقمان. 46

سجع الكهنة:

كلامهم المزوّق المتكلف. 47 وقد ذكر تعريف سجع الكهان في معجم اللغة العربية المعاصرة كما يلي: سجع الكهان كلامهم غير المفهوم المزوق لاستمالة السامعين. 48 وأما تأويل شق لرؤيا الملك فمعروف عند العرب، وكان في عهد كسرى أنو شيروان، فعبر الرؤيا بكلام مسجع فقال: أحلف بما بین الحرتین من إنسان، لینزلن أرضکم السودان، ولیغلبن على كل طفلة البنان، ولیملکن إلى ما بین أبین ونجران. 49 كما روي عن سطيح الكاهن مثل هذا التأويل، فعبر أيضًا رؤيا بكلام مسجع، حيث قال: أحلف بما بین الحرتین من حنش، لیهبطن أرضکم الحبش، ولیملکن ما بین أبین إلى الجرش". 50

وظاهر من نماذج نثرهم أن الكهان كانوا يستعملون السجع المتكلف الغامض، وفي جمل قصيرة، وغير واضحة المعنى، لكي تتحير الأذهان في فهم المقصود منها، 51 وذلك فإنهم طائفة تزعم تطلع على الغيب، وتعرف ما يأتي به من الغد بما يلقي إليها توابعها من الجن، 52 فينبئون بكلامهم المسجع المقفع كأنه ألقي إليهم من الجن.

يتضح مما ذكرنا آنفًا أن النثر العربي كان رائعًا معجبًا جذابًا أنيقًا مصورًا للطبائع والقرائع، ولما كان العرب أمةً أميةً فلم يدونوا نثرهم الفني وأدبهم العربي تدوينًا منسقًا إلا ما تناقل منه صدرًا عن صدر، ولما بزغ فجر الإسلام فنقلوه من الصدور إلى السطور ليحفظ من الدسائس والهلاك في شكل مكتوب، والبعثة المحمدية- على صاحبه آلاف تحيات وتسليمات- قد لعبت دورًا فعالًا في إبقاء تقاليد الجاهلية المثبتة على حالها كما أنها بعثت في الأدب العربي روح البقاء والقرار، فقد دون ككنز عظيم للتثراث الجاهلي يستفيد منه الأدباء والعلماء.

 


  • 1 مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسیط، مطبوعة: دار الشروق الدولية، القاهرة، مصر، 2004م، ص:901
  • 2 الدكتور أحمد مختار، معجم اللغة العربية المعاصرة، ج-3، مطبوعة: عالم الکتب، القاهرة، مصر، 2008م، ص:2168
  • 3 الدكتور جواد علي، المفصل في تاریخ العرب قبل الإسلام، ج-16، مطبوعة: دار الساقي، بیروت، لبنان، 2001م، ص:367
  • 4 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:85
  • 5 الدكتور شوقي ضیف، العصر الجاهلي، مطبوعة: دار المعارف، القاهرة، مصر، د.ت. ط، ص:398
  • 6 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:85
  • 7 الدكتور شوقي ضیف، العصر الجاهلي، مطبوعة: دار المعارف، القاهرة، مصر، د.ت. ط، ص:398
  • 8 الدكتور جواد علي، المفصل في تاریخ العرب قبل الإسلام، ج-16، مطبوعة: دار الساقي، بیروت، لبنان، 2001م، ص:367-368
  • 9 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:85
  • 10 كان من عادة العرب أن يجتمعوا في الليالي المكْفهِرّة، ويحدثون قصص آبائهم وحكايات أجدادهم، ويعبرون عن ذلك بالسمر.
  • 11 الدكتور شوقي ضیف، العصر الجاهلي، مطبوعة: دار المعارف، القاهرة، مصر، د.ت. ط، ص:399
  • 12 أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، مطبوعة: المکتبة العصریة، بیروت، لبنان، 1999م، ص:153
  • 13 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:85
  • 14 الدكتور جواد علي، المفصل في تاریخ العرب قبل الإسلام، ج-16، مطبوعة: دار الساقي، بیروت، لبنان، 2001م، ص:6-7
  • 15 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:85
  • 16 الدكتور شوقي ضیف، العصر الجاهلي، مطبوعة: دار المعارف، القاهرة، مصر، د.ت. ط، ص:399
  • 17 أحمد أمين، فجر الإسلام، مطبوعة: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1969م، ص:67
  • 18 الدكتور جواد علي، المفصل في تاریخ العرب قبل الإسلام، ج-16، مطبوعة: دار الساقي، بیروت، لبنان، 2001م، ص:10
  • 19 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:85
  • 20 أحمد حسن الزیات، تاريخ الأدب العربي، مطبوعة: دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1993م، ص:19
  • 21 الدكتور جواد علي، المفصل في تاریخ العرب قبل الإسلام، ج-16، مطبوعة: دار الساقي، بیروت، لبنان، 2001م، ص:405
  • 22 علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، مطبوعة: مكتبة دار التراث، بیروت، لبنان، 1991م، ص:264
  • 23 الدكتور شوقي ضیف، العصر الجاهلي، مطبوعة: دار المعارف، القاهرة، مصر، د.ت. ط، ص:412
  • 24 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:86
  • 25 الدكتور سید وقار أحمد الرضوي، تاریخ أدب عربي، مطبوعة: قدیمي كتب خانة، آرام باغ، كراتشي ، باكستان، 2013م، ص:66
  • 26 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:86
  • 27 الدكتور جواد علي، المفصل في تاریخ العرب قبل الإسلام، ج-16، مطبوعة: دار الساقي، بیروت، لبنان، 2001م، ص:407
  • 28 علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، مطبوعة: مكتبة دار التراث، بیروت، لبنان، 1991م، ص:265
  • 29 الدكتور جواد علي، المفصل في تاریخ العرب قبل الإسلام، ج-16، مطبوعة: دار الساقي، بیروت، لبنان، 2001م، ص:410
  • 30 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:87
  • 31 علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، مطبوعة: مكتبة دار التراث، بیروت، لبنان، 1991م، ص:265-266
  • 32 أحمد حسن زیات، تاريخ الأدب العربي، مطبوعة: دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1993م، ص:19
  • 33 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:89
  • 34 أحمد حسن زیات، تاريخ الأدب العربي، مطبوعة: دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1993م، ص:18
  • 35 أحمد الإسکندري وأحمد أمین وعلي الجارم وأحمد ضیف، المفصل في تاریخ الأدب العربي، ج1-، مطبوعة: مطبعة الأمیریة ببولاق، القاهرة، مصر، 1936م، ص:85
  • 36 علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، مطبوعة: مكتبة دار التراث، بیروت، لبنان، 1991م، ص:261
  • 37 الدكتور عبد الحلیم الندوي، عربي أدب كي تاریخ، مطبوعة: ترقي أردو بیورو، نئي دهلي، الهند، 1904م، ص:101
  • 38 أحمد حسن زیات، تاريخ الأدب العربي، مطبوعة: دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1993م، ص:22-23
  • 39 علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، مطبوعة: مكتبة دار التراث، بیروت، لبنان، 1991م، ص:261
  • 40 علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، مطبوعة: مكتبة دار التراث، بیروت، لبنان، 1991م، ص:261
  • 41 أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، مجمع الأمثال، ج-1، مطبوعة: دار المعرفة، بيروت، لبنان، د. ت. ط. ص:301
  • 42 أحمد حسن زیات، تاريخ الأدب العربي، مطبوعة: دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1993م، ص:23
  • 43 علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، مطبوعة: مكتبة دار التراث، بیروت، لبنان، 1991م، ص:268
  • 44 علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، مطبوعة: مكتبة دار التراث، بیروت، لبنان، 1991م، ص:268
  • 45 أحمد زكي صفوت، جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، ج-1، مطبوعة: المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، 1933م، ص:126
  • 46 الدكتور شوقي ضیف، العصر الجاهلي، مطبوعة: دار المعارف، القاهرة، مصر، د. ت. ط، ص:399-398
  • 47 مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسیط، مطبوعة: مكتبة الشروق الدولية،2004م، ص:803
  • 48 الدكتور أحمد مختار، معجم اللغة العربية المعاصرة، ج-2، مطبوعة: عالم الكتب، بيروت، لبنان،2008م، ص:1035
  • 49 أبو عبد الله محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، ج-1، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1993م، ص:118
  • 50 أبو عبد الله محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، ج-1، مطبوعة: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1993م، ص:117
  • 51 علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، مطبوعة: مكتبة دار التراث، بیروت، لبنان، 1991م، ص:270
  • 52 الدكتور شوقى ضیف، العصر الجاهلي، مطبوعة: دار المعارف، القاهرة، مصر، د. ت. ط، ص:420