ما زالت المنطقة المزدهرة المعروفة بـ"يونان" تتجلى على بسيط الأرض إلا أن الجيل اليوناني الذي كان ذا شأن جليل في زمن مّا أصبح أسطورة بالية بما حكم عليهم سلاطين جبابرة، لم يكن لديهم عدل ولا إنصاف، ولا خطط اقتصادية وسياسية، يدعّمون من يشيعون الأفعال الشنيعة والأعمال القبيحة، فسقطت اليونان شأنًا ومقامًا من الثريا على الثرى، وليست هي الآن إلا كدولة صغيرة على وجه الأرض، ولا شك في أنها حضارة كبيرة وثقافة عظيمة في قديم الزمان، لاق بها أن يحفظ تاريخها إلى يومنا هذا، وإلا فهو مجمع الأدناس والأرجاس. كلما نسمع ذكر اليونان فتتبادر أذهاننا إلى الأدب والفن والفلسفة والديانة والشعر والنثر والعلوم والفنون اليونانية التي تميز حضارتها عن الأخرى، وقد لعبت أثينا(Athens) دورا هاما في تأسيس العلوم والفنون، وتنشئة المثل التاريخية والقيم الأخلاقية، كان منها الفلاسفة الحكماء والأدباء العظماء، ولها أثر عميق في تكوين شخصياتهم، فمن الأدباء البارعين يورييبيدس(Euripides)، وإسخلوس (Aeschylus)، وأرستوفانيس(Aristophanes)، وسوفوكليس(Sophocles)، ومن القادة السياسين بريكليز(Pericles)، ومن الخطباء المصقعين ديموستينيس(Demosthenes)، ومن المؤرخين الماهرين هيرودوت(Herodotus)، ومن الفلاسفة المتدينين أناكساجوراس(Anaxagoras)، وسقراط(Socrates)، وأفلاطون(Plato)، وأرسطو (Aristotle)، كلهم كانوا من أثينا كما أن منشأ العلوم المروجة في الأيام الحاضرة كالفلسفة (Philosophy) والديمقراطية (Democracy) والمأساة (Tragedy) من مدينة أثينا أي: اليونان. 1
كانت أثينا(Athens) في بادئ النظر مع كل هذه القيم العلمية والتاريخية مدينة ساذجة، سككها ضيقة وأسواقها صغيرة كقرية في زماننا يعرف فيها كل رجل رجلا آخر إلا أن اليوم يتواجد في القرى المذياع والتلفزيون والجرائد والرسائل وبها يعلمون الناس ويخبرونهم عما تحدث، وأما أثينا(Athens) فليست بها وسائل الإعلام والإخبار إلا أنهم يجتمعون في السوق أو الدوار أو الجمنازيوم ويتجاذبون الأطراف، وأهم المواضع للمجالس العلمية والفنية هي الأسواق وبيوت الأحباء والأقرباء والجمنازيوم وأماكن البيع والشراء. 2
قال المسعودي: تنازع الناس في فرق اليونانيين، فذهب طائفة من الناس إلى أنهم ينتمون إلى الروم، ويضافون إلى ولد إسحاق، وقالت طائفة أخرى: إن يونان هو ابن يافث بن نوح، وذهب قوم إلى أنهم من ولد آراش بن ناوان بن يافث بن نوح، وذهب قوم إلى أنهم قبيل متقدم في الزمان الأول، وإنما وهم من وهم أن اليونانيين ينسبون إلى حيث تنسب الروم، وينتمون إلى جدهم إبراهيم؛ لأن الديار كانت مشتركة والمقاطن والمواطن كانت متساوية، وكان القوم قد شاركوا القوم في السجية والمذهب؛ فلذلك غلط من غلط في النسبة، وجعل الأب واحدا، وهذا طريق الصواب عند المفتشين، وسبيل البحث عند الباحثين، والروم قفت في لغاتها وضع كتبها اليونايين؛ فلم يصلوا إلى كنه فصاحتهم وطلاقة ألسنتهم والروم أنقص في اللسان من اليونانيين، وأضعف في ترتيب الكلام الذي عليه نهج تعبيرهم وسنن خطابهم. 3
قال المسعودي: قد ذكر ذو العناية بأخبار المتقدمين أن يونان أخو قحطان، وأنه من ولد عابر بن شالخ، 4 وذكر اليعقوبي أيضًا أنهم أولاد يونان بن يافث بن نوح، 5 وذهب الطبري إلى أن نسب الروميين ينتمي إلى اليونانيين فذكر أن الروم بنو لنطى ابن يونان بن يافث بن نوح، 6 وهذا ما ذهب إليه ابن الأثير حيث قال: من ولد
هذا ما قاله المؤرخون المسلمون في نسبهم وأما المغاربة فهم ساكتون عن ذكره بما أنهم محرومون من الوحي الإلهي والعلم النبوي- على صاحبه ألف صلوات وتسليمات-، ولذلك يعتمد الأخباريون المسلمون على الرواية والدراية، فأخبارهم معتمدة مسندة تاريخية، وهي أليق وأجدر بالأخذ والقبول.
لكن جعل جان إيس هاليند(John S. Highland) نسبهم من أصل إغريقي(Hellene) ينتمي إلى الآريين، فيذكر عن عمرانهم وسكانهم بقوله: جاء الآريون(Aryans) في بداية الأمر إلى الجنوب والغرب، وتسلطوا على شمال اليونان قبل ألف وخمس مئة (1500) عام قبل الميلاد، ويسمون بالإغريقيين أي الهيلينيين (Hellene)، ينطقون بلسان واحد ولهجات مختلفة، كانوا أجمل اللون، يحرقون أمواتهم كغيرهم من الآريين، ثم بعد زمن أبادوا سلطة كريت(Crete) وحكومة إيجة (Aegean Sea) مع كونها حضارة متطورة وقوة بحرية، يشتاقون إلى أن يعمروا البنيان والعمران وراء البحر فأصبحوا ملاحين، وبدأوا يبنونها على جزر إيجة وعلى سواحلها، فترامت عمرانهم إلى البحر الأسود(Black Sea) شمال الشرق وإلى إيطاليا(Italy) وصقلية(Sicily) غربًا، وإلى فرنسا شمال الغرب، وعمروا في البحر الأسود(Black Sea) إلى شبه جزيرة قريم (Crimea)، وكذلك انتشرت القبائل اليونانية في سواحل البحر المتوسط(Mediterranean Sea)، ولما هدأت فتوح الإغريقيين فأردفتها أمواج المقدونيين والفريجيين، فاستوطن المقدونيون اليونان(Greece) والفريجيون آسيا الصغرى(Asia Minor). 10
يسمي أهل أوربا اليونان بـ"غريس"(Greece) وسكانها بـ"غريك"(Greek)، وإنما سميت بها؛ لأن أول من واجههم الروميون(Romans) من اليونانيين هم إغراقيون أي غراشيون(Grecians)، فسماهم الروميون بذلك، ثم أطلق هذا الاسم على كل من سكن هذه المنطقة، ومازالوا موسومين به، 11 رغم أن أهل اليونان يسمون أنفسهم بهيهيلينيين(Hellens) ومنطقتهم بهيلاس(Hellas). 12
يقول المؤرخ حبيب حق عن عُمران اليونان: إن النقوش المرسومة على الجدران التي ظهرت في الاكتشافات الحديثة في قبرص، تدل على أول سكان اليونان الموسومين بـ"ينوان"، جاؤوا من جانب البحر المتوسط (Mediterranean Sea)، ثم تتألف معهم قبائل أخرى شيئًا فشيئًا، فهم وإن كانوا ينطقون بلغاتهم إلا أنهم يسمون الأشياء اليونانية باللغة القديمة، ولم تبق إلى القرن الخامس الميلادي منطقة تكون فيها لغة قديمة أو مُثل تاريخية إلا النواحي القليلة، وقد كان بينهم امتزاج واختلاط، أشعارهم حالكة سوداء، لونهم لون الزيتون والبياض، وأكثرهم أسمر اللون، والإلهة "ديميتر" (Demeter goddess) كانت أبيض اللون مثل فرفاوس(Perseus) تعد نموذج البطولة اليونانية، 13 وأجسام آلهتهم تشابه أجسامهم وأوصافهم الظاهرة، وهي كانت معايير وأشكالا تفهم منها هياكلهم الجسمانية وأوصافهم الظاهرة.
فيونان القديم ليس عبارة عن حضارة فقط، بل إنها مجمع الحضارات التي رسمت أسمائها في صفحة التاريخ، ونوضح بعضها في التالي.
سيكلاديز(Cycladic) تطلق على مجموعة الجزر الواقعة في بحر الإيجة (Aegean Sea) بين يونان(Greek) وآسيا الصغرى(Asia Minor)، كانت الحضارة السيكلادية متكونة في هذه الأراضي قبل ألفين وخمس مئة (2500) سنة، وسكانها يصنعون الآونة والأشياء الأخرى من الفضة والرخام والرصاص، وهم منقسمون في القبائل الصغيرة، معاشهم الزراعة والتجارة، ولذلك أكثر ما يعبدون إلهة الزراعة والحضارة، يعيشون مطمئنين في بلادهم إلا أن لكل شيء زوالا، وقد زالت حضارتهم، وانمحى أثرهم قبل ألف وتسع مئة (1900) عام قبل الميلاد؛ لكن بقيت من حضارتهم آثار غير لاتنمحى على جزائر كريت (Crete) وآسيا الصغرى (Asia Minor). 14
كان يونان في العهد القديم مركزا رئيسيا للحضارتين، الحضارة المينونية(Minoan Civilization) والحضارة المايسينية(Mycenae Civilization)، نشأت الحضارة المايسينية في وسط يونان، ويبدأ عصرها من ألفين ومأئتي (2200) عام إلى ألف وأربع (1400) مئة عام قبل الميلاد، كانت سلطة ملكهم ماينوس(King Minos) على البحر بما يملك قوة بحرية واقتصادية وزراعية، ويرى أن الزلازل الحادثة عام ألف وسبع مئة وثلاثين (1730) قبل الميلاد، وعام ألف وخمس مئة وسبعين (1570)قبل الميلاد، وعام ألف وأربع مئة وثمانين (1480) قبل الميلاد أبادت حضارتهم وثقافتهم، وقضت على زينة هذه البلاد وحسنها، وبعد ذلك هاجمت عليها القبائل الخارجية حتى فنيت من وجه الأرض.
وأما الحضارة المايسينية(Mycenae Civilization) فمركزها كان بمدينة مايسينة(Mycenae) الواقعة على شبه جزيرة بيلوبونيز بينيسولا(Peloponnese Peninsula)، قد نشأت هذه الحضارة قبل ألف وست مئة (1600) عام قبل الميلاد إلا أن كيف كان بدأها؟ فسكت عنه التاريخ، ولغتهم متكونة من اليونانية والهندية، وللحضارة المينونية آثار عمقية في الحضارة المايسينة إلا أن ملوكهم يعيشون في القلاع المتينة والقصور الشامخة، وقد تسلطوا على بحر الإيجة (Aegean Sea) إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهذه الحضارة ممتدة من اليونان (Greece) إلى تركيا (Turkey)، 15 ثم انتهت قبل ألف ومئة (1100) عام قبل الميلاد، ولم يذكر المؤرخون سبب انتهائها وفنائها، يرى البعض أن القبائل الدورية (Dorian) هجمت وتسلطت عليهم، وليس لهم على ذلك دليل، وأكثرهم يقولون: إن هذه الحضارة هلكت وفنيت بالآفات الكونية والزلازل والحوادث، ولما انتهت فغرقت اليونان في عصر الظلمة(Dark age) إلى قرون. 16
الحضارة المايسينية(Mycenae Civilization) قد بادت قبل الميلاد حوالي ألف سنة(1000) أو ألف ومئتي (1200) سنة، ما أدت الحضارات اليونانية الأخرى إلى وهن وضعف، والعصر الذي بدأ من هنا يعرف بعصر الظلمة(Dark age)، ولم يكن ذلك العصر المظلم في يونان فقط بل كان محيطا بالبلدان النائية الشرقية أيضًا، ثم خرجت البلاد الشرقية من الظلمة حوالي عام تسع مئة(900) قبل الميلاد، أما يونان فقد بقيت فيها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وكان الناس فيه يفتقرون إلى المطعم والمشرب حتى تركوا الكتابة والقراءة رغم أنهم كانوا في هذه الأوضاع الحرجة قاموا بحفظ حضارتهم وبنقل وقائعها وأحداثها صدرًا عن صدر إلى الآخرين. 17
نشأت في عصر ما بين سبع مئة وخمسين (750) عام إلى خمس مئة (500) عام قبل الميلاد الحضارة اليونانية وتطورت، واستقل اليونانيون استقلالًا سياسيًا، وأقيمت الحكومات الدولية(City States)، فكانت دولا ذات أهمية كبيرة منقطعة النظير، عمت فيها العلوم والفنون كما تطور من خلالها المثّالون فصنعوا تماثيل تذكارية، ودوّنت أصول دولية، وانقسم المجتمع البشري بين الأحرار والعبيد، وإلى جانب ذلك اتضحت الحقوق الإنسانية كحقوق الرجال والنساء والغلمان والعبيد. 18
ثم في عصر ما بين خمس مئة (500) سنة إلى أربع مئة (400) سنة قبل الميلاد قد بنيت القصور الشامخة الكبيرة، وطوّر المثّالون حرفتهم فقدموا التماثيل على سبيل القرب من الفطرة والحرية الفكرية والثقة الشخصية، وصنعوا تماثيل الرجال والنساء عاريةً، 19كما تطور علم الفلسفة والحساب والهيئة والجغرافية والسياسة والصنعة والتجارة والزراعة والهندسة والأدب والتاريخ، ونشأ المشاهير من الفلاسفة الحكماء والباحثون العلماء، واشتهر هذا العصر من ثلاثة مئة وست وثلاثين (336) قبل الميلاد أي من تمكن إسكندر العظيم من العرش إلى ثلاثين (30) قبل الميلاد أي إلى سلطة الرومانيين على اليونان بـ"العصر الهلنستي" (Hellenistic Age) أي العصر الحضاري، وتغيرت السلطات البلدية إلى الممالك المستقلة ولقب رؤسائها بالملوك، 20 واتسعت سلطة إسكندر العظيم (Alexander the Great) إلى سلطة إيران ومصر والعراق وأفغانستان والهند، ولما توفي فاختلف خلفائه فيما بينهم وانقمست السلطة في قطاع متعددة، ثم قتل كل من انتمى إلى سكندر العظيم عام ثلاث مئة وست (306) قبل الميلاد. 21
"يونان" هي قطعة جنوبية من أوربا، يحيط بها البحر الأبيض من ثلاثة أطراف، ويعرف الآن بجزيرة بلقان، والقطعة المسماة بيونان أو الهيلس تقع بين الجبال الكمبونية (Cambunian Mountains) وتفصلها عن مقدونيا (Macedonia). 22
كثيرا مّا تحدث في يونان الزلازل والحوادث وخاصةً في منطقة بلوبونيز (Peloponnese)، كان إحداها حدثت في أسبارتا عام أربع مئة أربع وستين (464) قبل الميلاد كما حدثت زلزلة مهلكة في هيلز (Helice) على ساحل شمالي من بلوبونيز (Peloponnese) عام ثلاث مئة وثلاث وسبعين (373) قبل الميلاد حتى أغرقت هذه المدينة في البحر، وتقع في تهيرا (Island of Thera) جزيرة بركانية، والسلطة اليونانية تمتد بالمستعمرات والفتوح الجديدة إلى أسبانيا وسردينيا (Sardinia) وكورسيكا (Corsica) وسيسلي وفرنسا الجنوبية وميغنا غريسيا (Magna Graecia) وأفريقية الشمالية حتى إلى حدود مصر كما تمتد إلى البحر الأسود وآسيا الصغرى(Asia Minor) وقبرص وأفغانستان والهند الشرقية. 23
لم تكن اليونان مدينة ولا دولة فقط إنها كانت حضارة عظيمة ممتدة إلى الأراضي النائية التي تحد بعضها بعضا عن طريق البحر، فتدفق أنهار أوربا البرية في البحر الأسود (Black Sea)، وهي من ناحية تفصل آسيا (Asia) عن أوربا (Europe)، ومن ناحية أخرى تتصل عن طريق بحيرة مامورا (Marmara Sea) وإسثيمز(Isthmus) بالبحر المتوسط (Mediterranean Sea)، فطرف البحر المتوسط الواقع في يونان لم يكن مفتوحا متسعا، بل كانت لما وقع في يونان علاقة بسواحلها وطرقها وجزرها، وكلها تسمى أراضي يونانية، ونظرا إليها تنقسم الأراضي اليونانية في ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول كان ممتدا إلى حدب وأطراف آسيا الصغرى، وداخل آسيا الصغرى بشكل إقليمي كإيران إلا أن بها جبالا وأودية وطرقا وفجوات تقع قريبة من البحر، ولما كانت السلاسل الجبلية تقرب من الساحل الجنوبي فانحدرت أرضها غربًا وشمالًا، وهنا تجري أنهار كبيرة، وفي غربها كان الساحل منقطعا وهو موضع تبتدأ منه أرض يونان، وفي هذه النواحي أيضا تجري الأنهار العديدة وفي وسطها سلاسل جبلية متواصلة متساوية مع ساحل البحر، والأنهار تتدفق على أفواه الفجوات التي تشكل أنواعا من السواحل، وأعظم الأنهار نهر غيديز (Gediz River) وكيستر (Rivers Kestros) ومياندر، وتمتد سلسلة هرموس إلى جزيرة خيوس (Chios Island) شمالًا، وسلسلة كيستر (Rivers Kestros) ومياندر الداخلية إلى راس ميكالا، والساحل الجنوبي من نهر مياندر كان في شكل ما كان عليه في جنوب آسيا الصغرى أي: أحاطت به جبال مرتفعة وفجوات عميقة، ولم يكن آنذاك نهر يستوي ساحله، فكانت به جزر عديدة، ثم يأتي ساحل مدور لليسية(Lisiya)، وتنتهي حدود يونان إلى خليج بمفيليا (Gulf of Pamphylia). 24
فالمنطقة الساحلية اليونانية كانت حجرية حادة، تقع في جنوبها جزيرة كريت الكبيرة (Crete)، وكانت بوسط بحر الإيجة (Aegean Sea) جزر أخرى، من أشهرها ليس بوس (Lesbos) ورهودز (Rhodes)، وكلها كانت حوالي ثلاثة آلاف(3000) جزيرة. 25
ومعظم اليونان كان جبالا وصخورا وأكثرها صخور الجص، وبسببها كان الناس يتحملون المشاق في ذهابهم وإيابهم، لم تكن فيها طرق واسعة ولا شوارع كبيرة، بل كانت بها طرق ضيقة منشعبة بين الجبال، وبما أن الوديان كانت في وسط الجبال فكان لها استقلال كدول مستقلة، وأعلى الجبال جبل أوليمبوس (Olympus) الواقع في ثيساليا(Thessaly)، يبلغ ارتفاعها إلى تسع ألف وسبع مئة وخسمين (9750) قدمًا، وكانت فيها غابات مخضرة مزدهرة تسكن فيها الدواب الوحشية. 26
كانت أنهار يونان مشتركة في ثلاثة، الأول: أنها غير صالحة لجري السفن والبواخر فيها، ولم يكن اليونانيون يعرفونه، ولذلك تحير هيرودوت (Herodotus) حينما رأى البواخر والسفن تجري في النيل والفرات وسر بذلك، وقد ذكره في كتابه بكل بسط، مع ذلك لم يمكن السفر في البحر معروفا في ثيميز (Thames)؛ لإنها منطقة مرتفعة، فكانت السفن تجري في نهرها إلى جانب سفلي حتى تحمل الحمير فيها إلا أن الرجوع منه في جانب علوي كان أصعب جدّا حتى تساق السفن على الأرض. الثاني: أنه من أصعب الأنهار عبورًا وخاصةً في أيام البرودة. والثالث: أن مياهها لاتشرب؛ لكدرة فيها. 27
كان مناخ بعض المناطق مختلفا عن بعضها تمامًا، ومن أبرز مناطقها التي تحيط بشاطئ البحر ويتغير المناخ فيها قيعان وجبال ثلاثة 28 كما أنه يتغير بتغير المواقع الجغرافية حيث يتأثر طقسها من وقوعها في خط العرض ووقوعها قريبة من البحر وموقعها الجغرافيائي من البحر الأبيض في الشرق ووسعتها في جانبه شرقًا وشمالًا، وبما أنها تقع في خط العرض الخاص جنوبًا تنتج حاصلات تحتاج في نتجها ونضجها إلى حر شديد؛ لكنها مفتوحة متسعة شرقًا وشمالًا، ويقع في هذه الناحية البحر الأسود، وهذه المنطقة الساحلية صحاري واسعة وبراري شاسعة تخفض شدة الحر في الصيف وتزيد البرد قارسا في الشتاء، وبهذه الرياح البحرية كان جوها معتدلا في جميع فصولها، ونتيجة لهوائها وفضائها ومياهها تنبت فيها أشجار متنوعة وتختلف الحاصلات المنتجة في هذه الناحية عما تحصل في إيطاليا (Italy) على نفس خط العرض؛ لهبوب رياحها جنوبًا.
لاكونيا (Laconia) وماسينيا (Messenia) من المناطق التي تهب فيها الرياح الجنوبية، فمناخها جنوبي تمامًا، ولم تكن التمور في يونان للغذاء والمنفعة إلا زينةً لأرضها، وتربتها وإن كانت بها أنواع من الأزهار لكنها غنية بخصائص مناخها اللطيف، ومعظم تربتها جص، والمناطق التي كان في سطحها جص تجذب تربتها المياه إلا أن الجزر وشبهها والجبال مجدبة، ومن ناحية أخرى كانت تربة الوديان والحقول البرية ثقلية وتتماسك المياه عليها إلى مدة مديدة، 29 والبرد في الجبال أشد من المناطق الأخرى في الشتاء، وبها تشتد الحرارة في الصيف، وتسقط الأمطار في غرب اليونان في خمسة شهور أي فصل الربيع وإلا فسقوط الأمطار كان نادرًا. 30
يونان كانت متكونة من مئات المدن، بعضها كقرى صغيرة وبعضها كبيرة إلا أن من أكبرها وأشهرها أثينا (Athens) وخالكيذا (Chalcis) وكورنث (Corinth) وآريتريا (Eretria) ودلفي (Delphi) وإسبارطة (Sparta) وثيبات (Thebes)، وكان سكان أثينا (Athens) في عصر بريكليز (Pericles) تقريبًا ثلاث مئة ألف (300000) نسمة، ثلثهم عبيدا وسدسهم نذلاء أجنبيين، خمسون ألفا شبان مقاتلين، ولما امتدت سلطة أثينا فانضمت فيها تراقي (Thracian) وهيلسبونتين (Hellespontine) وإنسولار (Insular) وآيونية (Ionian) وكيرية (Carian) وازداد سكان أثينا إلى عشرين مئة ألف (2000000) نسمة. 31
يونان مـتألفة من جزر البحر الأبيض، تسكن فيها شعوب مختلفة، أشهرهم وأبرزهم الآيونيون (Ionians) والدوريون(Dorians).
الشعب الآيوني (Ionians) كان جيلًا يونانيًا شرقيًا قديمًا منسوبًا إلى منطقة واقعة على ساحل أناضول (Anatolia)، وكانت للغة الآيونية ربط محكم بأتيكي (Attic) ومنطوقة في معظم المناطق اليونانية والجزر الإيجية (Aegean Islands)، وقيل: إن القبائل الآيونية هاجرت من أتيكا والمناطق اليونانية الوسطى بعد القبائل الدورية إلى أناضول الغربية، وقد انكشفت هذه الحقيقة بعد أن ظهرت القبائل الأربعة من أثينا في سكان مايلتوس (Miletus) والمدن الآيونية الآخرى، وقد ذكر المؤرخ هومر (Homer) أن الشعب الآيوني كانت له سمعة في عصر الملك الآشوري سنهريب (Assyrian King Sennacherib) وهو ما بين عام سبع مئة وأربع (704) إلى عام ست مئة وواحد وثمانين (681) كما كانت لهم سمعة في الغنى المالي والرخاء الاقتصادي ومساهمة كبيرة في الحضارة والثقافة اليونانية والفلسفة والعلوم الأخرى. 32
القبائل الدورية (Dorians) إحدى الشعوب اليونانية الثلاثة الأساسية، وهي الآيونية والدورية والآولية (Aeolians)، وجميع اليونانين ينتمون إلى دوروس بن هيلن (Dorus, Son of Hellen)، 33 وقد ذهب المؤرخون القدماء إلى أن القبائل الدورية كانوا سكان يونان الشمالي والوسطي؛ لكنهم في عصر الأبطال (Heroic Age) هاجروا مع الهيراكليدين (Heraclidae) إلى بيلوبونيز (Peloponnese). 34
اللغة المنطوقة في عصر الكلاسيكي يتكلم بها الناس في يونان والجزر الإيجية (Aegean Islands) والمستعمرات الجدد فيها، فيونان على أنها كانت منقسمة إلى عدة دول، لسانها واحد يمتاز به سكانها عن البرابر، وكانوا يسمون كل من ينطق بغير اليونانية بربرا (Barbaroi)، وهذا يعني ناسًا ينطقون بلغة مبهمة غير مربوطة، وخاصةً كان منهم أهل فارس قبل الميلاد بخمسة قرون أهل لغة واحدة
موقعها الجغرافي ومناخها لم يترك بدا لهم أن يصدروا ويستوردوا البضائع من الدول الأخرى، فكان لا بد لهم من استيراد الهبوب والمطاعم إلى بلدتهم بل كان ذلك أمرًا فطريًا لهم، واهتموا لذلك بالسفر في البحر، وتطوروا فيه ليتمكنوا من استيراد وإصدار البضائع دائمًا، وقد كان لهم قدم راسخ في العلوم والفنون غير الفرق بين الحق والباطل، ومن أجل ذلك لم يكن لحضارتهم وثقافتهم أساسا متينا واضحا، وقد توالدت فيها عديد من الحضارات التي تطورت إلى عصر ثم بادت وفنيت بما عمّ فيهم الترف والمرح، الظلم والعدوان، العصبية والتفرقة، الرأسمالية والمادية والوهمية، القيم الركيكة والأهواء الشهوانية، وغيرها من أشنع الأمور، ومازالت أطلالهم وآثارهم، لوحاتهم وكتاباتهم، نظائرهم وأمثالهم تصرح بكل وضوح لكل من يرسم اسمه على صفحات التاريخ أن اللّٰه عز وجل لم يخلق الإنسان لتطوير في الأسباب الدنيوية والوسائل المادية، بل إنها تسد الحوائج البشرية، وليس هو الغرض الأوفر للإنسان في الدنيا، وكل من نسي هذا الغرض سواء كان في الماضي أو في الاستقبال فلاتختلف عاقبتهم عن اليونانين.